من حيث المبدأ، ليس مألوفاً الاعتراض على تعميم موعود يُفترض ان يُجسّد روحية مبادرة «إراحة اللبنانيين». لكن الاسلوب والتوقيت وقسماً من المضمون تثير علامات استفهام تحتاج الى توضيحات اضافية، لكي تكون المبادرة مُريحة فعلاً للبنانيين.
ليس في الإمكان تقييم التعميم الذي يُتوقّع أن يصدره مصرف لبنان اليوم، كترجمة عملية لمبادرة إراحة اللبنانيين، سوى بعد الاجابة عن كمٍ من الاسئلة المطروحة. صحيح انّ أي عاقل لا يمكن أن يرفض فكرة اعادة الودائع الى أصحابها، لكن الصحيح أيضاً، انّه لا يوجد عاقل يستطيع أن يدّعي أنّه يعتبر القرار التمهيدي الصادر عن مصرف لبنان بمثابة قرار يؤدي الى تسديد الودائع.
في الواقع، يدفع هذا المشروع الى طرح الاسئلة التالية:
اولاً، من حيث التوقيت:
1- لماذا لم يصدر هذا التعميم منذ بداية الأزمة بحيث يكون بديلاً، ولو غير مكتمل المواصفات، لقانون كابيتال كونترول لم يصدر حتى الآن؟ وربما كان سيساهم في عدالة اكبر في سحب الاموال، وفي خروج أقل من الاموال الى الخارج، على اعتبار انّ قسماً من الودائع المتوفرة كسيولة في صناديق المصارف، كان سيُخصّص لتنفيذ مثل هذا التعميم.
2- هل هي مجرد صدفة بريئة ان يصدر هذا التعميم بعد دخول البلد رسمياً في السنة الانتخابية، والتي بدأت الاستعدادات لها بنشاط لافت؟ ألا يُخشى من اعتبار القرار «رَشِّة» دولارات قبل الانتخابات؟
3- لماذا يسابق التعميم قانون الكابيتال كونترول الذي قيل انّه سيُبتّ اليوم؟ اذا كان الجواب انّه يوجد تنسيق غير مُعلن لصدور التعميم، متماهياً مع مندرجات الكابيتال كونترول، يصبح السؤال، لماذا الاستعجال في اصدار التعميم، للإيحاء بأنّ القانون لن يصدر أبداً؟
ثانياً- من حيث الشكل والمضمون:
1- لماذا يبدو التعميم وكأنّه يصدر بالتقسيط، من حيث الاعلان عنه كمبادرة، ومن ثم قرار ولاحقاً (يُفترض اليوم) كتعميم.
2- لماذا يعتمد اسلوب التمويه من خلال تحديد فترة زمنية للوديعة التي يمكن السحب منها (من تشرين 2019 حتى آذار 2021)، للإيحاء بأنّ الموضوع مرتبط بإعادة الودائع وليس بتنظيم السحوبات (capital control).
3- لماذا جرى تقسيم السحوبات بين الليرة والدولار الحقيقي. اذا كانت واحدة من ايجابيات السماح بسحب الدولار تكمن في تخفيف الضغط على الليرة في السوق الموازية، فإنّ زيادة الكتلة النقدية حوالى 26 تريليون ليرة لن تؤدي سوى الى زيادة الضغط على العملة الوطنية، وبالتالي، سيكون سعر الدولار الى ارتفاع ملحوظ في الفترة المقبلة. كما انّ اعطاء المودع دولارات حقيقية (Banknote) فقط، سيضمن انفاقها من قِبل المودعين الذين يسحبون المال للحاجة وليس لتهريبها من المصرف. في حين انّ اعطاء المودع ما يعادل الـ400 دولار بالليرة سيشجعه على الانفاق من الليرة واخفاء الدولار. أما من لا يحتاج المال للإنفاق، سيعمد الى اعادة شراء الدولار بالمبلغ الذي سيحصل عليه بالليرة. وهكذا سنكون امام احتمال ارتفاع دراماتيكي للدولار، وتعرّض الشريحة الضعيفة في المجتمع لضغوطات معيشية اضافية.
4- ماذا سيكون مصير الودائع المصرفية التي جرى تكوينها في الخارج وفقاً لمندرجات التعميم 154، وستُستخدم لتلبية مندرجات التعميم المُنتظر اليوم؟ هل انتفت الحاجة الى المحافظة على العلاقات المصرفية مع المصارف المراسلة؟ هل انتفت الحاجة الى الابقاء على 3% من حجم الودائع في حسابات خارجية مُحرّرة من اي قيود؟ هل انتفت الحاجة الى اعادة هيكلة المصارف، وتحضيرها لاستعادة دورها من خلال «إعادة تفعيل نشاطاتها وخدماتها المعتادة لعملائها بما لا يقلّ عمّا كانت عليه في تشرين الأول 2019 «، كما ورد حرفياً في شرح المركزي لأهداف التعميم 154؟
5- هل أصبح مسموحاً اعلان افلاس مصارف وتصفيتها والمجازفة بخسارة المودعين فيها لأموالهم، وتوجيه ضربة اضافية الى القطاع المالي، ما دام مصرف لبنان لم يعد قادراً على وضع اليد عليها لضمان استمرارية عملها، وما دام الدمج شبه مستحيل في ظلّ معاناة كل المصارف؟
6- ماذا سيكون مصير بقية الودائع التي تتجاوز قيمتها الـ100 مليار دولار، اذا تمّ التفريط بالاحتياطي قبل البدء في خطة الانقاذ؟
كل هذه الاسئلة لا تعني انّه لا ينبغي السماح للمودعين بسحب دولارات حقيقية، بل تشير الى نقاط الضعف في المشروع المُقترح، والذي كان يمكن ان يكون فعّالاً لو صدر في تشرين 2019. أما اليوم، وبانتظار ان تستفيق السلطة السياسية من غيبوبتها وتقرّر إخراج البلد وابنائه من جهنم، عبر تسهيل الوصول الى مرحلة يصبح معها متاحاً الاتفاق على خطة انقاذ مع صندوق النقد ومع المجتمع الدولي، فانّ المعالجًة المقبولة، تكمن في مجرد تنظيم السحوبات المصرفية، وتحديد سقف السحب بالدولار الحقيقي للجميع بما لا يتجاوز الـ200 دولار شهرياً، وإصدار البطاقة التمويلية لحماية الفئات الأضعف التي لا يمتلك أصحابها ودائع مصرفية لا بالدولار ولا بالليرة. ومن المهم ان يتمّ تنظيم السحوبات عبر قانون الكابيتال كونترول وليس عبر تعاميم إعادة الودائع. وكل ما عدا ذلك سيزيد الأضرار، مع الاعتراف المسبق بأنّه لم يعد يوجد أي اجراء يمكن أن يُريح اللبنانيين، بل أقصى ما يمكن فعله، هو اختيار الاجراء الأقل وجعاً وظلماً، والأهم الاقل خطراً، على تدمير احتمالات الخلاص في المستقبل.