Site icon IMLebanon

الرهبنة الكبوشية: رسالة شهادة واستشهاد عمرها 400 عام

 

تحضيراً لتطويب الأبوين عويس ملكي وصالح في 4 حزيران

 

لا يزال لبنان على موعد مع احتفال تطويب الأبوين الكبوشيين، ليونار عويس ملكي وتوما صالح، في الرابع من حزيران المقبل. وفي إطار المساهمة في التحضيرات لهذا الحدث التاريخي، نظّمت بلدية بعبدات قبل أيام في دار البلدية محاضرة بعنوان «رسالة الكبوشيين في لبنان والمشرق من القرن السابع عشر إلى الطوباويين ليونار عويس ملكي وتوما صالح». اللقاء، الذي حضرته «نداء الوطن»، ألقى الضوء على نشأة الرهبنة الكبوشية، رحلتها إلى لبنان ومنه إلى المشرق كما حيثيات استشهاد الأبوين.

 

أدار المحاضرة البروفسور جورج لبكي، وقد شهدت حضوراً متنوّعاً تقدّمه الأب بطرس عازار الأنطوني، الأمين العام السابق للمدارس الكاثوليكية، الأب الياس شختورة الأنطوني، رئيس دير قرنايل ومُحاضر في الجامعة الأنطونية، الخوري جان موسى كاهن رعية بعبدات السابق والأب الياس سعود الكبوشي. وفي حين تغيّب كاهن الرعية الحالي، الخوري طانيوس خليل، بداعي السفر، حضر وفد من راهبات المحبة – بزنسون وراهبات القلبين الأقدسين وأعضاء المجلس البلدي في بعبدات.

 

الكلمة الافتتاحية كانت لرئيس البلدية، الدكتور هشام لبكي، الذي شدّد على «فرح العطاء» الذي تعيشه بعبدات في ظل الظروف العصيبة التي يمرّ بها لبنان. فعطاءات البلدة الأدبية والشعرية والثقافية والهندسية والطبية وغيرها، تتكلّل بتطويب اثنين من أبنائها، هدية للكنيسة ولكرسي بطرس، كي يكون لبنان، وبحقّ، بلد القدّيسين، ويكون تطويبهما بمثابة بذرة تنتج ثماراً كثيرة، كما قال. تلا ذلك كلمة للدكتور ميشال غانم توسّع خلالها في سرد تاريخ ورسالة الكبوشيين، وانتشارهم في كافة الأراضي اللبنانية والمشرق. واختُتمت المحاضرة، قبل إفساح المجال لحوار مع الحضور، مع المهندس فارس ملكي الذي شرح الخلفية التاريخية التي أدّت خلال الحرب العالمية الأولى إلى ارتكاب مجازر بحق المسيحيين، كما استشهاد الأبوين ليونار وتوما ورهبان ومرسلين آخرين.

 

بدايات الكبوشيين ورسالتهم

 

تفرّع الكبوشيون من رهبانية القديس فرنسيس الأسيزي، الذي امتاز بتواضعه وحبّه للفقراء واشتهر بتطلّعاته المميّزة نحو الشرق الأدنى. وُلد فرنسيس في مدينة أسيزي عام 1182 وتوفّي فيها عام 1226، وقد أوفد رهبانه إلى الأراضي المقدسة حيث قدّموا الكثير من التضحيات في خدمة الحجّاج القادمين للصلاة في الناصرة وبيت لحم والقبر المقدس. وفي العام 1528، انفصل الكبوشيون عن إخوانهم الأسيزيين لكنهم أكملوا رسالتهم على خطى فرنسيس. وقدموا إلى الشرق عام 1626 بهدف مدّ جسور الوحدة بين الكنيسة الكاثوليكية وباقي الكنائس المشرقية. لذا اعتبروا الكنيسة المارونية – المرتبطة بالكرسي الرسولي – نقطة انطلاقتهم للوصول إلى الأرثوذكسيين. وهكذا حصل، إذ استمرّت الاتصالات بينهم وبين رؤساء الطوائف الشرقية على مدى 25 سنة.

 

رسم الكبوشيون لأنفسهم خريطة طريق اعتبروها بمثابة دستور لهم تحت عنوان «إرشاد للمرسلين إلى الشرق»، وذلك للحدّ من تهوّر وحماسة البعض منهم ممّن كانوا يجاهرون بمسيحيتهم ويعتبرون أن كل من لا يتبع المسيح مصيره النار. وشاءت الصدف في تلك الفترة أن تسلّم الأب الكبوشي جوزيف دوترامبليه (1576-1638) سدّة المسؤولية، وهو الراهب الذي جمع في شخصه كل الصفات التي تضمن نجاح الإرساليات الكبوشية وتضع حداً للمغامرات الفردية التي تعرّض أصحابها للأذى. كان دوترامبليه اليد اليمنى للكاردينال دي ريشيلو واستلم أعلى المناصب في الدولة الفرنسية، ما سهّل عليه إقناع الملك لويس الثالث عشر بضرورة مساعدة الإرساليات وتأمين كل ما يلزم للرهبان. بعدها تم تعيينه في إدارة شؤون الرسالات الخارجية التابعة للكرسي الرسولي، وقد تمكّن بجدارة من وضع حدّ للمارسات الخاطئة التي كانت تعرّض المرسلين الكبوشيين لخطر الموت.

 

الرحلة من صيدا إلى بعبدات

 

إختار الكبوشيون خان الافرنج في صيدا نقطة انطلاق لرسالتهم في الشرق. ويعود هذا الاختيار لأسباب كثيرة، أهمها: موقع المدينة الجغرافي على البحر؛ أهميتها الاقتصادية وتواجد جالية كبيرة من التجار الأجانب فيها؛ وتنوّعها الطائفي الذي يضم موارنة وروم أرثوذكس وأرمن. وصل أول راهبين كبوشيين (فرنسوا دو سومير وجيل دي لوش) إلى المدينة في حزيران 1626، حيث بادرا بزيارة إلى البطريرك يوحنا مخلوف في قنوبين، وقد أبدى الأخير اهتمامه بتأمين المساعدة لهما.

 

في العام 1632 تشتّت الكبوشيون وانتقلوا من صيدا باتجاه حصرون وطرابلس إثر الحملة التركية ضدّ الأمير فخر الدين والكبوشيين بالذات، لتورطهم في تنصّره وعمادته على يد الأب أدريان دي لابروس. بانتقالهم إلى حصرون أقاموا في دير قُدّم لهم، وعملوا على تثبيت الموارنة في إيمانهم، محوّلين صورة المرسل من «مغامر منطلق نحو شعوب جاهلة متعصبة» إلى «صديق وافد ليضع ذاته في خدمة الكنيسة المحلّية». إلا أن إقامتهم في حصرون لم تستمرّ أكثر من ثلاث سنوات، إذ اضطروا للتوجه مع سكان جبل لبنان إلى طرابلس نتيجة الحرب التي شنّتها الجيوش التركية آنذاك.

 

في طرابلس تمحورت رسالة الكبوشيين حول الخدمة الدينية لجميع المسيحيين المشرقيين من موارنة وروم وسريان إضافة إلى الإفرنج الموجودين فيها. وقد واجهوا صعوبات كثيرة من ظلم واستبداد الحكام الأتراك. أما في غزير، فقد كان التثقيف الديني والروحي أساس الرسالة الكبوشية، إضافة إلى تثبيت موارنة كسروان في الإيمان المسيحي الكاثوليكي. وهناك أعطاهم البطريرك الماروني صلاحيات كثيرة مثل إقامة القداديس والوعظ والأسرار المقدسة في الرعايا، إضافة إلى تدريس التعليم الديني نظراً لقلة الكهنة في المنطقة. في عبيه، كان الوضع مختلفاً إذ اكتفى الكبوشيون بالتعايش مع أبناء المنطقة من الدروز بكل احترام وتقدير دون تبشيرهم بالمسيحية، جاعلين من عبيه مركز رسالة وتبشير للمسيحيين القاطنين في القرى المجاورة، بالتعاون مع الكهنة الموارنة. بعدها تحوّلت رسالتهم في المنطقة إلى خدمة الفقراء والأيتام والاهتمام بالتعليم المهني والخدمة الاجتماعية كما الطبية.

 

أما في صليما، فقد نجح الكبوشيون بتنصير الأمير عبدالله اللمعي الذي بنى لهم ديراً فيها وساندهم في إنجاح رسالتهم ونشر المسيحية الكاثوليكية في مناطق الجبل وعند الدروز. كما أنشأوا مركزاً طبياً لمعالجة مرضى المناطق المحيطة. ومن صليما أخيراً، انتقلوا إلى بعبدات ليؤسّسوا دير القديس أنطونيوس البادواني، الراعي لشؤون الطائفة اللاتينية منذ أواخر القرن التاسع عشر.

 

… ومن لبنان إلى المشرق

 

إنتشر الكبوشيون على امتداد المشرق العربي وصولاً إلى بلاد فارس والهند، كما إلى بلاد أفريقيا كمصر والحبشة وإلى قبرص أيضاً. وكانت رسالتهم الأولى في حلب حيث قاموا بتأسيس رهبنة نسائية وأقاموا ديراً لهنّ فيها. عُرفت الرهبنة باسم «الراهبات الكبوشيات على مثال مريم» ويخضعن لقانون القديسة كلارا، تلميذة القديس فرنسيس الأسيزي. كذلك، ساهموا في حلب بعودة السريان الأرثوذكس إلى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية على يد البطريرك أندراوس أخيجان، وإعلان البطريرك الأرمني كريكور بيتنراك، بدوره، انضمامه إلى الكثلكة. في دمشق وبغداد والموصل ودياربكر، بشّر الكبوشيون بالعقيدة الكاثوليكية لدى الطوائف المسيحية المشرقية كالأرمن والسريان والأرثوذكس والآشوريين والكلدان، ووحّدوهم مع كنيسة روما. كما لم يتوانوا عن إنشاء مدارس تهدف إلى التثقيف العلمي كما الديني، إضافة إلى مساهمتهم في تقديم خدمات طبية ومساعدات للفقراء. وقد نجحوا في توحيد بعض الطوائف المسيحية الشرقية الكلدانية مع الكنيسة الكاثوليكية.

 

حلم الكبوشيين الأكبر كان تحرير الشرق من نير الأتراك، غير أنهم لم يتدخلوا في أمور السياسة، ممتنعين عن أي عمل يعود عليهم بأرباح مادية، مكتفين بالمساعدات التي تصلهم. حتى رسالتهم الطبية كانت مجانية، لأنها اعتُبرت المفتاح الأساس ليقبلهم المجتمع والسلطات. وقد ظلّ أثرهم قائماً في لبنان وخارجه عبر تمهيد الطريق لغيرهم من الإرساليات كالفرنسيسكان والإخوة الماريست واليسوعيين والإكليركية الشرقية. كما بقي لهم أديرة في لبنان (بيروت، عبيه، البترون، صورات، المطيلب وبعبدات)، وفي سوريا أيضاً (دير الزور وحوران).

 

أسباب الشهادة

 

عانى الرهبان الكبوشيون من كافة أنواع الاضطهاد والتعصّب على يد الأتراك، ما أدّى إلى استشهاد الكثيرين منهم لا سيما في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من ضمنهم الأبوان ليونار عويس ملكي وتوما صالح. وقد قُتل ليونار في الصحراء بين ماردين وديار بكر ولم يُعرف حتى اليوم مكان قبره. أما توما، فقد فارق الحياة في سجن مرعش وليس معلوماً ما إذا نال رتبة دفن مسيحية أو تمّ التصرّف بجثمانه. ويشرح ملكي الأسباب التي فاقمت ظاهرة الاستشهاد يومذاك، وأبرزها: مواجهة الكبوشيين والمرسلين وقتها لحزب تركيا الفتاة وفضحهم لزيف الشعار الذي اتّخذه، أي الاتحاد والترقّي، حجة كي تكون تركيا للأتراك فقط، لا مكان فيها لأية مجموعة تختلف بالدين والعادات والثقافة عنهم، مستخدماً سبل الترهيب والتهديد المختلفة؛ الحرب العالمية الأولى التي استغلّها الأتراك للتخلص من المسيحيين في تركيا بعد أن وقفوا في صف الألمان ضدّ تحالف روسيا وفرنسا وإنكلترا. أما النتيجية فكانت الإبادة الأرمنية التي قضت على حوالى مليون ونصف مليون أرمني، إضافة إلى نصف مليون سرياني، كلداني، آشوري وإنجيلي دون أن ننسى 200 إلى 300 ألف ماروني قضوا جوعاً في جبل لبنان.

 

التطويب خطوة نحو تحقيق وحدة الكنائس؟

 

ملكي أشار ختاماً إلى أن الفترة التي عاش فيها الأبوان ليونار وتوما كانت مرحلة ظلمة بسبب تردّي العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في تلك الحقبة. لكنّه أضاف أنها «فترة نور بالنسبة إلينا لأنها منحتنا شهيدين اثنين». وتابع أن الكنيسة تقدّم لنا اليوم نموذجاً جديداً من القديسين اللبنانيين الذين تحلّوا بأبرز الفضائل المسيحية المختصرة بالمحبة الأخوية، الإيمان بالرب والثقة بوصاياه، الشجاعة أمام العذابات حتى الاستشهاد وخدمة الآخرين دون أي تمييز. كيف لا والأبوان نالا سر العماد في الكنيسة المارونية وسرّ التثبيت في الكنيسة اللاتينية وأتمّا خدمتهما بين الأرمن والسريان والكلدان والآشوريين. الاستشهاد وحّدهم جميعاً لأن الاضطهاد لم يميّز بينهم. فكما قال البابا يوحنا بولس الثاني: «مسكونية الشهداء هي الأكثر إقناعاً لنا كي نعجّل في تحقيق وحدة الكنائس».