IMLebanon

جورج وزينة ليسا آخر الضحايا والدولة:”ما خصّني”!

 

مستوى قياسي لقتلى السير و75 ماتوا في شهري تموز وآب

 

قبل أن يلفظ جورج الراسي، ابو جو، وزينة المرعبي، أم الفتيات الثلاث نايا ويسما وزينة، آخر الأنفاس، إنتقلت عائلة بأكملها، مكونة من سبعة أفراد من آل الفليطي، الى جوار الربّ بعد أن اجتاحت شاحنة محملة بأربعين طناً من الحجارة، عدداً من السيارات في بلدة عرسال. وقبلهم، في شهر واحد، راح أحمد خضر وابراهيم جمعة وريم حسن عبد الساتر وشربل مخول وأندرو جوزف أبي حنا وغيرهم وغيرهم ضحايا على طرقات دولة ليس فيها أيّ من مقومات الدول. بكينا على كل واحد منهم. ذرفنا دموعاً وذرف أهلهم دماً ودموعا. وماذا بعد؟ نضيء الشموع؟ فعلنا. وماذا بعد؟

إنها فاجعة جديدة. ضحيتان جديدتان في جلجلة حوادث السير اليومية في لبنان، وليتهما تكونان الأخيرتيّن. هزّ رحيل جورج الراسي – ومعه زينة المرعبي- القلوب لكن لم يرف جفن لمن سميناهم رجال دولة وأوكلنا أمورنا وشجوننا إليهم. ننقّ؟ لا فائدة. لا فائدة للحديث مع “حيطان”.

 

رسالة أب الى ابنه بألا يسرع

 

حين سُئل وزير الأشغال العامة علي حميه عن حوادث السير، وأحد أسبابها السرعة، قال: “السرعة ليست من صلاحية وزارة الأشغال”. هو أسهل جواب على أحد أكثر أسباب الموت في لبنان. واليوم، مع تشييع جورج الراسي، الشاب الدينامي، الرجل الذي أبى أن يكبر، أعلنت غرفة التحكم المروري ان آخر حصيلة لحوادث السير (في صباح يوم الأحد 28 آب) أتت مخيفة: 5 قتلى و12 جريحاً و13 حادث سير. تُصبحون على قدر.

 

قدرنا أن نولد هنا ونعاني هنا لكن، وبصدقٍ، ما عاد كثيرون قادرين على التحمل أكثر. فليس أصعب من عنصر المفاجأة في مسائل الموت. ومن حقّ الناس أن يسألوا: هل صحيح أن جميع سائقي السيارات في لبنان أصبحوا اليوم مشاريع موتى؟ منسق أنشطة اليازا في بيروت سمير سنو يتحدث عن 1000 ضحية سنوياً على طرقات لبنان ويقول “تعددت عوامل الموت على الطرقات وقاسمها المشترك تخلي الدولة عن مسؤوليتها”.

 

دعوى ضد الدولة

 

دولتنا عاجزة، فقيرة أم فاجرة، متخلية عن مهامها؟ لا، ليس ضرورياً أن تفكروا مرتين. دولتنا قاتلة. إنها مسؤولة عن كثير كثير من الحوادث والموت المجاني. في كل مرة، ندخل فيها نفقاً مظلماً دامساً نتذكر ذلك. نحن ندخل إليه ولا نعرف ما إذا كنا سنخرج منه أحياء سالمين. هناك، في دولة الإمارات، في أبو ظبي تحديداً، قبضوا بالجرم المشهود على لبناني يأكل إجاصة وهو يقود سيارته والغرامة كانت 800 درهم (نحو 250 دولارا) وسحب 500 نقطة من دفتر القيادة. وأرسلوا إليه فيديو يحكي عن مخاطر تناول الطعام أثناء القيادة. نضحك أم نبكي؟ هناك دولة وهنا يتباهون بدويلة وينسون أن عليهم واجبات غير التباكي و”التمسكن”.

 

هناك من يقول وما ذنب الدولة في كل صغيرة وكبيرة؟ ذنبها يا عالم أنها الدولة. ألا يكفي ذلك؟ المحامي أشرف الموسوي هو الوكيل القانوني للضحية جورج الراسي ونُقل على لسانه أن اهل جورج سيرفعون دعوى ضدّ الدولة وضدّ متعهدي الأوتوستراد الدولي. لكن، لا شيء أكيداً بعد. اليوم الجنازة وغداً يوم آخر. المحامي الموسوي أكد أمراً “لم يكن جورج تحت تأثير السكر فهو ختّم أوراق خروجه عند الجمارك وبين ذلك وحادث السير أقل من ثلاث دقائق”. جورج الراسي اصطدم بفاصل إسمنتي، حيث لا لوحات فوسفورية ولا إضاءة، في نصف الطريق. وحدث ما حدث في تمام الساعة الخامسة و16 دقيقة.

 

السلامة في خبر كان

قضاء وقدر؟ نصيبه؟ قد تتوزع المسؤوليات لكن، لا يختلف اثنان حول مسؤولية كل أجهزة الدولة المعنية بشؤون النقل. زياد عقل “نبت على لسانه الشعر” وهو يتحدث عن غياب الدولة “فقطاع النقل، كما كل القطاعات في لبنان، تراجع كثيراً. والسلامة المرورية أصبحت في خبر كان. ولا دوريات رادعة على الطرقات ولا إشارات ضوئية ولا فواصل فوسفورية وحفر ولا معاينة ميكانيكية ولا دولة تصغي الى نداءات اليازا وفي المحصلة نحن في وضع كارثي”.

 

بعد ثلاث سنوات يكون قد مضى على وجود اليازا في لبنان ثلاثة عقود. وإذا سألنا من فيها، ممن يعملون بقلوبهم وعقولهم، عن حال الطرقات لأجمعوا: وضعها زفت!

 

الضحايا – القتلى على طرقات لبنان بالعشرات شهرياً. قبل أن ينتهي آب هذا بثلاثة أيام أتت الحصيلة: 35 ضحية. أتتخيلون ماذا حصل في 35 منزلا في لبنان في شهر؟ الدولة مسؤولة؟ نعم هي كذلك. نحن نصلي ونحن نعبر داخل أنفاق الموت كي نخرج أحياء. أليس هذا كافيا لتكون الدولة مسؤولة؟ ألا يكفي أن نعبر الأوتوستراد من أقصى اليمين الى أقصى اليسار بدون إشارة ضوئية لتكون الدولة مسؤولة؟ ألا يكفي أن نرى عنصراً أمنياً أو بلدياً منهكاً من كثرة التفكير لا العمل وهو يتكئ على حجر، تحت شمس آب اللهاب، عند مستديرة أطفئت شارتها الضوئية، تاركاً السائقين “يدبروا راسن” لتكون دولتنا مسؤولة؟ لا، لن نسأل تلك الدولة عن حال الإشارات الضوئية لأن جوابها سيأتي سخيفاً. ستخبرنا الدولة عن أن خلاف البارك ميتر والبلديات أوقف الإشارات! فما ذنب الناس، في كل ذلك، في دولة سرقت شعبها وما عادت قادرة لا على صيانة الإشارات ولا على إضاءة حتى شمعة؟ هل معنى ذلك أن نسكت؟ جورج الراسي راح ضحية فمن يضمن أن لا يكون جورج الراسي آخر قريبا؟

 

سألنا وزير الأشغال السابق ميشال نجار، قبل أسابيع من مغادرته الوزارة: ماذا عن ظلام نفق شكا؟ أجاب يومها: “هذه مسؤوليتنا. ونحن نحتاج الى مولد وإعادة تأهيل الإنارة. والمشروع بحاجة الى تمويل، ونحن في حكومة ووزارات بلا إعتمادات. ترك النفق مظلماً ليس نتيجة قلة وعي لكن العين بصيرة واليد قصيرة، فالأعمال تستدعي إعتمادات كثيرة ونحن في بلد منهار إقتصادياً ولا سيولة لدينا”. هذه هي أجوبتهم.

 

نعم، الدولة مسؤولة ونحن مسؤولون لأننا ننسى. فاليوم ندفن جورج الراسي وننسى غداً.

 

الحق على مين؟

 

 

 

أكثر من 5000 ضحية حوادث سير في لبنان في الأعوام الثمانية الأخيرة. في شهر تموز الماضي وحده سقط في لبنان 40 ضحية. وفي أول ثمانية أشهر من هذه السنة 2022 قفز عدد الضحايا عن الـ 200. ارقام مهولة في بلد لا تزيد مساحته عن 10452 كيلومتراً مربعاً. والدولة، في كل ذلك، كوما. الناس يسرعون فيموتون؟ وزير الأشغال الحالي يرجح ذلك ما جعل كل الموضوع خارج صلاحية وزارة الأشغال. وزيرنا لم ينتبه الى الحفر- الأفخاخ على الطرقات ولا الى الإشارات الضوئية المطفأة ولا الى العتمة الدامسة على الأوتوسترادات ولا الى الفواصل غير الطبيعية على طرقاتنا ولا الى أكثر من عشرين ألف ريغار سُرقت عن طرقاتنا ولم يبال أحد.

 

في كل حال، يهم إخبار “دولتنا”- إذا كانت لا تعرف – أن الطرقات لها لغتها والإشارات المرورية هي هذه اللغة، إن فهمناها نجحنا في مهارة التواصل معها وإذا لم نفهمها، أو غابت عنا، دفعنا الثمن أخطاء. دولتنا نسفت هذه اللغة بيننا وبين الطرقات.

 

مشكلتنا أن دولتنا ومن فيها يعتبرون الناس أغبياء. فالبارحة، قبل عامين، يوم امطرت السماء كثيراً وأقفلت الطرقات قالوا للناس “هذا ليس ذنب وزارة الأشغال لأن السماء أمطرت ثلاثين ميليمترا في ساعة علماً أن معدل الأمطار في شهر لا يتعدى 108 ميليمترات”. الحقّ إذا على السماء.

 

شباب وشابات، كبار وصغار، يموتون مجاناً على طرقات لبنان. جورج الراسي يحب السرعة؟ هو، مثل شباب كثيرين، يحب السرعة لكن كان هذا زمان. هو نضج وأصبح أبا وكان يحلم أن يكبر وولده جو، الذي بدّل كل كيانه، وأن يذهبان معا لممارسة الرياضة والركض ويضحكان. كانت أحلامه كثيرة. وكان قد شارك اليازا حملة توعية ضد حوادث السير. ودارت الحياة دورتها معه وأتى دوره في الموت في حادث سير.

 

قبل ان تغيب شمس البارحة، الأحد، وصل خبر للتو: قتيل وجريح في حادث سير على طريق عام الضنية. إنها الجلجلة المتمادية.