Site icon IMLebanon

كرادلة الكرسي الرسولي يتناوبون على الحوار بين بعبدا وبكركي والديمان

مفارقة تداولها المتحاورون مع عواصم عربية ودولية

واللجنة العربية الثلاثية وضعت أوزارها بسرعة وارتاحت

يواصل البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير روايته للأحداث اللبنانية منذ العام ١٩٨٩، وحتى اقرار اتفاق الطائف.

والكاردينال دقيق في تعابيره، حصيف في وقائعه، والرهافة تبقى الضيف الباهر للأنظار والأفكار. ولعل الكاتب جورج عرب يودع القارئ هذه المعلومات وحسبه الموضوعية والصدق والالتزام بما يستحقه الموضوع الجليل، من سلامة في ايراد الاسرار، وعلى لسان صاحب النيافة والغبطة.

ويروي الكاردينال للكاتب جورج عرب في سلسلة مؤلفاته: حارس الذاكرة وهي محاضر سرية عن لقاءات البطريرك، ومنها انتقاله من المقر الصيفي في الديمان الى المقر الشتوي في بكركي، عبر المرور بمصيف اهدن وزيارة الرئيس سليمان فرنجيه.

وترافقت عودة البطريرك من الشمال الى جبل لبنان مع عودة السفير الفاتيكاني انجيلوني من روما الى لبنان، ليحزم حقائبه تمهيداً للسفر الى مقره الجديد في البرتغال، ليحل محله في لبنان السفير بابلو بوانتي.

وفي اللقاء مع السفير الجديد، يورد الكاردينال صفير المعلومات الآتية:

تحدثنا عن الحالة في لبنان وعن كلمة البابا الذي اتهم بها سوريا صراحة بقوله: قايين، قايين لماذا تقتل أخاك. وطالب سوريا بوقف القصف.

وأخذ رأينا في نية البابا بأن يدعو البطاركة الكاثوليك والأورثوذكس الى روما للبحث في القضية اللبنانية. فأجبناه: لا بأس، على ألا يحرج ذلك البطاركة المقيمين في دمشق مثلا هزيم وحكيم وعيواص، وعلى ألا يفسر المسلمون الاجتماع بأنه لانقاذ المسيحيين فقط، ويراد منه انقاذ اللبنانيين على وجه الاجمال. فأخذ مرافقه رؤوس اقلام عن هاتين الملاحظتين.

ويوم الثلاثاء الواقع فيه ١٥-٨-١٩٨٩، اتصل البطريرك صفير بالسفير البابوي رينه وطلب موعدا وتم اللقاء في بكركي.

ويقول الكاردينال انه كانت بينه وبين السفير الفرنسي جولة افق واسعة حول ما يجري، وقد سألنا عما قمنا به من اتصالات فأخبرناه بما دار بيننا وبين الرئيس حسين الحسيني الذي نصح بألا تصير المطالبة بانسجاب الجيش السوري الا بعد انتخاب رئيس وتأليف حكومة واحدة واجراء اصلاحات.

كانت وجهات نظر السفير الفرنسي ان يصير الاتفاق بين اللبنانيين على مبادئ الوفاق، وهكذا تكون ورقة الاصلاحات قد انتزعت من يد السوريين الذين يدعون انهم في لبنان ليعملوا على انصاف المسلمين، باجراء الاصلاحات، في حين كان تقرير اللجنة العربية الثلاثية يقول بوجوب الانسحاب الكامل.

ويضيف الكاردينال: لقد اخبرنا السفير الفرنسي ان الموفدين الفرنسيين الى سوريا وموسكو والفاتيكان والمغرب والسعودية والجزائر ومنظمة الامم المتحدة، أكدوا ان سيادة لبنان لا تقبل النقاش، الا ان سوريا اعربت عن استغرابها لتدخل فرنسا في شأن لبنان.

ويورد الكاردينال صفير ان الوزير السابق ميشال اده والشيخ فؤاد الخازن ابلغاه ان الموفد العربي الاخضر الابراهيمي والوزير اللبناني غسان سلامة قد ساهما في وضع تقرير وزراء اللجنة العربية الثلاثية.

كان اللقاء في بعبدا دقيقا مع العماد ميشال عون، وحضر القسم الاكبر منه المطران يومئذ بشارة الراعي، وخلاصة الاجتماع ان السوريين كانوا يعتقدون ان الملك فهد بن عبد العزيز عاهل السعودية وملك المغرب الحسن الثاني، والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، لن يكونوا احرص على سيادة لبنان من اي مسؤول لبناني.

ويقول الكاردينال صفير إن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني قرر المجيء الى لبنان، لبضع ساعات فيحتفل بالذبيحة الالهية في حريصا، ويزور دار الفتوى في بيروت الغربية، ثم يعود الى بكركي ومنها يستقل الطوافة ليعود الى لارنكا التي يكون قد اتى منها الى بكركي بالطريقة عينها لأن مطار بيروت غير صالح من الناحية الامنية. قد لا يكون هناك خطر في المنطقة الشرقية، ولكن ما الفائدة من زيارة هذه المنطقة من دون المنطقة الغربية؟ وزيارة المسيحيين دون المسلمين، قد تتخذ في نظر هؤلاء طابعا فئويا، وتزيد الهوة بين المسيحيين والمسلمين في لبنان وهذا ما لا يريده قداسته.

وتم الاتفاق على ان يسأل العماد عون رأيه في الامر فاذا كان موافقا يصار الى سؤال الرئيس الحص.

ويورد صفير ان السيد داني شمعون اتصل بالعماد عون، وأخبره بما دار بيننا من حديث، وطلب منه الا يقبل بالاقتراح.

وقائع وأسرار

ويعرض الكاردينال صفير ما حدث في تلك الحقبة من اتصالات جامعة وشاملة ولا سيما مع الرئيس سليم الحص:

عرضنا عليه ما دار من حديث مع العماد عون، واقترح ان نذهب شخصيا على رأس وفد من النواب الى زيارة الملكين فهد والحسن الثاني والشاذلي وأمين عام الامم المتحدة دي كويليار لحثهم على اتخاذ تدابير لتنفيذ ما جاء في تقرير وزراء خارجيتهم. وبعد تقليب وجوه الرأي، رأينا ان ندعو بعض النواب من مثل: رينيه معوض، جورج سعادة، وخاتشيك بابيكيان والسيد داني شمعون والدكتور سمير جعجع وأحد نواب تجمع النواب الموارنة بطرس حرب لاطلاعهم على مبادئ الوفاق الوطني التي اعدها الرئيس الحسيني.

ويتابع البطريرك روايته:

أخبرنا انه في مناسبة ترؤسه وفد لبنان الى مؤتمر الفرنكوفونية في باريس، التقى الرئيس جورج بوش وهلموت كول المستشار الالماني ودي كويليار، امين عام الامم المتحدة والرئيس ميتران وحدثهم عن لبنان. وكان الرؤساء وحدهم في قاعة خاصة فراح يتنقل فيما بينهم على الرغم من ان الدخول عليهم ممنوع لكنه لم يمنع. وفيما الرؤساء ينتقلون الى تناول طعام الغداء، اجتمع النواب اللبنانيون: عبد اللطيف الزين وزكي مزبودي ورينه معوض ورفعوا ايديهم وهتفوا لبنان امام الرئيس الاميركي بوش فحياهم وقال لهم: ان زميلكم بابيكيان حدثني عن لبنان.

وتشعبت الحوارات التي قادها البطريرك صفير، مع الوجوه اللبنانية وغير اللبنانية، خصوصاً ما قام به السفير الفرنسي رينيه ألا، الذي كان يُظهر حبا للبنان، وتوددا الى قادته، وهو امر غير معهود عند سواه من الديبلوماسيين الفرنسيين، كما كان يقول المحامي جورج جبر رئيس الاتحاد الديمقراطي المسيحي اللبناني.

واوفد الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران مسؤولا فرنسيا رفيعا لمواصلة المحادثات، وقد رافقه السفير الفرنسي رينه ألا وأمينا سر، وشرح لنا الغاية من زيارته وهي مساعدة لبنان للخروج من محنته. لهذا اوفده الرئيس ميتران الى لبنان، وكان زار قبلا البابا يوحنا بولس الثاني الذي قال له – على ما اكد – ان ما يجري في لبنان انما هو عار كبير ورددها مرتين، على المجموعة الدولية التي تترك عضوا من اعضائها يحل به مثل هذا الدمار.

وتابع البطريرك صفير:

سألنا رأينا في الوضع وعما اذا كان عندنا تصور، فأوجزنا له القضية اللبنانية منذ عهد الاستقلال وقد قام على نفيين، لا للشرق ولا للغرب، وأعطى الموارنة منصب رئاسة الجمهورية كضمانة، لكيلا يصبحوا مواطنين من درجة ثانية يُمنع عليهم ابداء رأي سياسي. وبعد ذلك بدأ المسلمون يطالبون بالمشاركة، علماً ان رئيس الجمهورية لا يقوم بعمل الا اذا اقترن بموافقة رئيس الحكومة والوزير المختص. وبعد فنحن لسنا ضد الاصلاحات المطلوبة، على شرط ان تكون متوازنة، بحيث لا يشعر المسيحي بخوف ولا المسلم بغبن.

وأوجزنا له الالية التي تصورها الرئيس الحسيني، والتي تؤدي الى انتخاب رئيس للجمهورية عن طريق ايصال مرشح توافقي – كما في المبادرة التي كُلفنا بها سابقا من قبل الاميركان ولم تنجح – فقال السفير الفرنسي ألا: هذا خطأ الاميركان ومسؤوليتهم. وسألنا ان ينقل احترامنا لرئيس الجمهورية الفرنسي السيد ميتران. والموفد الفرنسي وزير كان يتكلم بهدوء وبصوت منخفض وبلهجة ناعمة.

بقي اسم الموفد الفرنسي غائباً عن التداول، الا ان البرلماني الكبير الدكتور ألبير مخيبر قال انه، وقبل كل شيء، يجب اخراج السوريين من لبنان، وانه اذا لم يخرجوا، فقد يطول الانتظار.

وأضاف الكاردينال صفير:

كنا دعونا الدكتور البير مخيبر، لكنه كلف المطران ابو جودة ان ينقل اعتذاره عن عدم المجيء. ويهمنا انه عدل عن المجيء لأن الكثيرين من النواب لم يدعوا. واذا كانوا لم يدعوا معاً، فلكيلا تثار الحساسيات لدى العماد عون وسواه وتناول الصحف خبر الاجتماع الذي تقضي المصلحة العامة بابقائه بعيداً عن الاضواء.

أطلعنا النواب على مبادئ الوفاق الوطني التي وضعها الرئيس الحسيني كما وردت في الورقة التي سلمنا اياها، فتلوناها عليهم صفحة صفحة. فأبدوا بعض ملاحظات ليست اساسية. مثلاً: ان يكون لرئاسة الوزراء مقرها فينعقد المجلس الوزاري فيه، وهذا انتقاص من مقام رئاسة الجمهورية الذي يجب ان ينعقد المجلس الوزاري فيه. وهذا يعني ان على الوزراء أن يأتوا الى رئيس الجمهورية، وليس عليه أن يذهب اليهم. وبعد الاطلاع على هذه المبادئ، دار نقاش حول الآلية لتطبيق هذه المبادئ.

ورأى النائب نصري المعلوف ان يتألف وفد من المسيحيين لزيارة الاسد، على رأسهم البطريرك الماروني، بعد ان يكون وافق حافظ الاسد على مطالب المسيحيين، بما فيها خروج السوريين وفقا لروزنامة محددة. ويتضمن الوفد ممثلا للعماد عون. في حين يرى الباقون ان يتابع الحسيني صلاته مع الرئيس الاسد الذي اطلع على هذه المبادئ، والاسد يقنع المسلمين بالتسليم بها.

الاهم أخذ موافقة العماد ميشال عون على هذا التحرك الداخلي، ومعلوم انه ما من أحد يمكنه بأن يسلّم بأقل مما طالبت به اللجنة العربية الثلاثية، وهو برمجة اخراج السوريين من لبنان. ويطلب من اللجنة العربية وجامعة الدول العربية ضمان كل اتفاق يتم بين لبنان وسوريا.

اخيرا، قر الرأي على ان يذهب ميشال ساسين وخاتشيك بابيكيان وجورج سعادة لمقابلة العماد عون واطلاعه على ما دار في الاجتماع من حديث والعودة الى الاجتماع في بكركي.

أرسل الفاتيكان الكاردينال أوكونور الى لبنان، ومعه طلب بأن يعقد اجتماع بين البطريرك الماروني والشيخ ميخائيل ضاهر الذي تم الاتفاق في دمشق، على اسمه بين الأسد ومورفي لرئاسة الجمهورية.

ويروي الكاردينال صفير الوقائع الآتية: لقد حضر الكاردينال أوكونور من لارنكا، في طوافة عسكرية، وقد استقبلناه في باحة بكركي بحضور عدد من المطارنة وعدد من المستقلين وعلى رأسهم جوزيف جريصاتي مدير غرفة الرئاسة الأولى ممثلا العماد ميشال عون والسفير الأميركي جون مكارثي.

بعد الكنيسة انتقلنا الى القاعة الكبرى حيث كان جيش من رجال الاعلام والمصورين ينتظرون. واستقر بنا المقام بعض الوقت، ثم ألقينا كلمة بالانكليزية رحبنا فيها بنيافته وطلبنا منه ان يتدخّل لدى حكومته لتنفيذ القرارات المتخذة لمصلحة لبنان في مجلس الأمن.

ورد بكلمة تنويه معتذرا عن عدم الكتابة. ونقل الينا بركة قداسة البابا الذي كان طلب بعد ان يعرّج عليه في المجيء والذهاب من نيويورك واليها، كما نقل الينا تحيات دي كويليار، وأكد ان زيارته لتفقد وكالة الغوث الحبرية.

وبعد أخذ المرطبات، انتقلنا الى المائدة العادية لتناول طعام العشاء. بعد تناول القهوة في القاعة الكبرى، انتقلنا مع الكردينال والسفير أنجيلوني الى مكتبنا حيث أراد الكردينال ان يعتذر منّا للتلكس الذي بعث به الينا ليحضنا على قبول المرشح الوحيد ميخائيل الضاهر لرئاسة الجمهورية. واعترف ان من دفعه الى ذلك انما كانت السلطة المدنية والسلطة الكنسية وان مورفي قد زاره أكثر من مرة.

وانتقل الحديث الى ما يمكن الولايات المتحدة ان تصنعه في سبيل لبنان، فقلنا له: تنفيذ القرارات الدولية المتخذة باخراج اسرائيل من لبنان وكل القوى غير اللبنانية.

فقال ان الله تبارك اسمه لو أراد ان يكون رئيسا لجمهورية الولايات المتحدة لا يمكنه ان يكون ان لم يحصل على رضى اليهود. وشرحنا له الوضع اللبناني وسألناه ان يؤيد لبنان ليستعيد مؤسساته وحياته الديمقراطية. وسأل عن موقف كل من الرسميين الذين سيزورهم وهم: العماد عون، والحص، والحسيني ودار الافتاء، وشمس الدين والدار الدرزية. وأطلعناه على الكتاب الذي بعث به الينا الرئيس بوش فقال مازحاً: اذا قدمت هذا الكتاب الى أحد المقاهي، نلت فنجاني قهوة دون بدل. وأنهى كلامه بالقول: أعاذنا الله من شرّ الساسة والسياسة.

في الساعة السابعة والنصف نزلنا الى المائدة فكان الكردينال ورفاقه قد ابتدأوا بتناول طعام الفطور. بعد الخروج عن المائدة أرينا الكردينال القذيفة التي سقطت في ساحة الكنيسة الشمالية فأطارت بضع حجارة من التصوينة مع بعض قضبان حديدية من الدرابزون. وما ان رأى الكردينال ذلك حتى قال كان القصف من البحر، فيما كان قد رآها بعض الخبراء فلم يستطيعوا تحديد الجهة التي أتى فيها القصف إلاّ بعد جهد.

وانتقلنا الى أمام قاعة الاستقبال الكبرى تمهيدا لذهاب الكردينال للقيام بزيارته المدرجة علي البرنامج. واذا به يطلب ان يكلمنا مع السفير أنجيلوني على حدة ليقول ان أمين سرّه المونسنيور مكرتي تلقى اتصالا هاتفيا من السفير الأميركي مفاده ان الحكومة الأميركية اتصلت به لكي يبلغ الكردينال بعدم الذهاب الى الغربية لزيارة دار الافتاء وشمس الدين والحص والحسيني، وذلك لأسباب أمنية، وسألنا رأينا في ذلك. فقلنا له: اذا كان الأمر يتعلق بحياتك فلم المجازفة ومن الأفضل إلغاء المواعيد. وبدا مترددا وكان يرغب في القيام بالزيارة ولو تعرّض لخطف واغتيال، فقلنا لو ان ذلك ليس من رأينا ولن يخدم القضية، ومن الأفضل ألاّ يقال ان الحكومة الأميركية هي التي منعته لكيلا يثير ذلك عليها حفيظة المسلمين، وليكتف بالقول لدى الاعتذار ان الزيارات ألغيت لظروف أمنية وحسب.

وانتقل الكردينال يرافقه السفير البابوي والمطران أبو جودة ومعاوناه سترن ومكرتي، لزيارة العماد ميشال عون في القصر الجمهوري في بعبدا.

وأخبرنا المطران أبو جودة ان الكردينال عندما سأله الصحافيون عن سبب الغائه زيارته الى الغربية أجاب: أنا بيد البطريرك والسفير البابوي، ويبدو انه من الحكمة ألاّ أذهب الى الغربية، وأجاب بالنفي عن سؤالهم عما اذا كانت الحكومة الأميركية هي التي منعته. وقد علمنا ان هذا كان موضوع انتقاد لبكركي ومسّت بالهالة التي تكوّنت لها، عندما فتحت أبوابها لقبول التعازي بالمفتي الشيخ حسن خالد.

في الساعة السادسة أقام نيافته قداسا في معبد سيدة لبنان بحضور عدد من المؤمنين ومن بينهم شبان كثر وشابات وطلاب. وألقى عظة تحدث فيها عن الغاية من زيارته ودعوة البابا إياه للتعريج عليه قبل المجيء الى لبنان، وهذا ما فعله وامتدح ايمان اللبنانيين، وقال لنا انه ذكرنا مرتين، وانه كلما ذكر اسم قداسته وذكرنا صفّق المؤمنون.

وبعد القداس قابل بعض الجماعات من المؤمنين، وعاد الى حريصا في الساعة الثامنة والنصف، وقد حضر العشاء سفير أميركا مكرتي ومرافقو الكردينال ومعاونانا أبو جودة والراعي.

ودارت على المائدة أحاديث حول الحالة في لبنان. ومما قاله السفير مكرتي ان اللبنانيين ولا سيما المسيحيين لا يعرفون ما يريدون، ويذهب الكثيرون من بينهم الى الادارة الأميركية في واشنطن وكل منهم يعرض وجهة نظر مغايرة عن وجهة نظر سابقة، بحيث انه اذا اجتمع ست لبنانيين في غرفة صدر عنهم اثنا عشر رأيا مختلفا. فأجاب الكردينال: وأين العجب أليست هذه هي الديمقراطية.

وعقد لقاء بين الكاردينال أوكونور ورؤساء الطوائف المسيحية في ٢٩ أيار ١٩٨٩.

ويروي البطريرك صفير انه اتصل هاتفيا بالرئيس سليم الحص، وانه وجّه رسالة خطّية الى الرئيس الحسيني وان الكاردينال أونوكور استهل اجتماعه بالقادة الروحيين بقوله انه جاء ليستطلع ويساعد، لكنه أوضح ان الشعب اللبناني لا يمكنه ان يفهم ان الولايات المتحدة لا تستطيع ان تعمل شيئا في سبيل لبنان سوى اصدار التصريحات، إلاّ أن أكونور قال لهم: اعطونا ما يجب عمله عمليا لا نظريا.

وتوالى الحديث على هذا النمط، وكأن لا قرارات اتخذها مجلس الأمن لمصلحة لبنان ولم توضع موضع التنفيذ. ومما أوضحه الكردينال ان للولايات المتحدة مصلحة أكيدة مع اسرائيل فعلى لبنان ان يخلق هذه المصلحة على مثال اسرائيل لتهتم به الولايات المتحدة لأن الدول لا تبالي بالمبادئ الأدبية بل بالمصالح.

كان الموفد الفرنسي فرنسوا شير، وهو المدير العام لوزارة الخارجية الفرنسية دبلوماسيا مثقفا، واستطاع بحذاقته ان يضع أسس حلّ سياسي مع الرئيس حافظ الأسد، ووفقاً للتكليف المعطى له من قبل الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران والذي يشدّد على ان الأولوية لوقف اطلاق النار، ولا أحد يعترض على ان يكون العماد عون طرفا في أي حلّ.

وشدد الأسد على انه أول رئيس سوري يعترف بسيادة لبنان على أرضه، وان على اللبنانيين ان يجدوا الحلول الداخلية، في ما خص الاصلاحات.

وسجل البطريرك صفير الملاحظات الآتية:

١ – شكر لفرنسا رئيسا وحكومة وشعبا ولسعادة المدير العام والسفير ما يبذلونه لمساعدة لبنان للخروج من محنته.

٢ – موافقة تامة على ان الحل سياسي لا عسكري.

٣ – العماد عون أيقظ بالمدفع الضمير العالمي على المأساة اللبنانية، وسررنا لكون دمشق لا تقصي العماد عون.

٤ – ذكّرنا بما قاله قداسة البابا يوحنا بولس الثاني للوزير De Gaulle ان المأساة اللبنانية عار على المجموعة الدولية لأنها تترك عضوا من أعضائها يموت تحت سيل من الحديد والنار.

٥ – ما طلبنا يوما من فرنسا أو سواها مساعدة عسكرية، بل مساعدة معنوية سياسية، ولم نطلب حتى مساعدة انسانية لأن لبنان لا يريد ان يكون عالة على أحد.

٦ – قلنا ان وقف اطلاق النار يجب ان يستتبعه فوراً العمل السياسي لاعادة المؤسسات الدستورية: انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة واحدة، واعادة المجلس الى نشاطه لأن لبنان اذا بطل ان يكون بلداً ديمقراطيا فقد يتهدد وجوده.

٧ – عرضنا باختصار مشروع الاصلاحات الذي أعدّه الحسيني، على ان تقبل سوريا بمبدأ الانسحاب. فقال المدير العام: طلبنا من الأسد علامة تشير الى نيّة الانسحاب. وقلنا ان الأمر ملحّ خاصة لأن مدّة ولاية المجلس النيابي تنتهي عام ١٩٩٠.

٨ – يمكن برمجة انسحاب الجيش السوري، واحلال الجيش اللبناني محلّه وهذا يقبل به الطرف الاسلامي بعد أن تتم المصالحة الوطنية نبيه بري وهذا يعني بعد أن يكون العماد عون ترك القيادة.

٩ – سأل المدير العام عن مدى استعداد عون لقبول شرط السوريين لرفع الحصار وهو انشاء لجنة مراقبة لبنانية – لبنانية على البواخر، لمنع دخول السلاح.

أجبنا ان ما نراه في الصحف يدلّ على ان العماد عون يقول ان له حقاً بادخال السلاح، ما دام عنده جيش تابع للدولة، وأثيرت قضية وضع مراقبين عرب، فأجاب المدير: ان سوريا لا تقبل بهم، وهي تكتفي بالقول انها هي تضمن عدم ادخال سلاح الى حلفائها ولا حاجة لها لمراقبة وكلامها جدير بالتصديق واذا التزمت نفّذت.

وأكد شير ان فرنسا ستتابع جهودها لتجري الأمور بسرعة ولكن العمل السياسي مستحيل ما لم يصمت المدفع.

كان الانتقال مجدداً الى الصرح البطريركي في الديمان، العلامة الفارقة للمرحلة الآتية. ويورد البطريرك صفير المعلومات الآتية:

نهضنا في الرابعة صباحا، وفي السادسة إلاّ ربعاً انتقلنا بصحبة سيادة نائبنا العام المطران أبو جودة في سيارته ويصحبنا جورج صليبا.

وصلنا الديمان في السابعة إلاّ خمس دقائق وكانت الشمس قد طلعت وبدت الطبيعة ضاحكة بما فيها من جنائن خضراء وكذلك الجبال المشرفة على دورة قاديشا.

مررنا على الحواجز الأمنية وكانت السيارات من سيارات ركاب وشاحنات تقف على الخطين ذهاباً وإياباً صفوفاً طويلة بانتظار السماح لها بالمرور. استطعنا ان نمرّ على خطّ جانبي محفوظ لبعض المحظوظين وقلنا كم من وقت يهدر على اللبنانيين. أصحيح ان الوقت من ذهب؟ وكم من أعمال كان باستطاعة الناس ان ينجزوها لو سمح لهم بالمرور بسرعة؟ هذه الخسارة، خسارة الوقت وحدها كافية لتشكّل عبئاً على اللبناني.