ترميم وتأهيل الأحذية والسراويل… بالتي هي أرخص
بعدما كان معلم خليل الكندرجي يتندّر على الزبون الذي يأتيه حاملاً حذاءه بهدف إعادة تأهيله بـ”درزة” أو تحصينه بـ”تلزيقه”، بسبب إجتياح البضاعة الصينية الأسواق نظراً لثمنها الزهيد، ها هي الاحذية المستعملة تصل الى فوق رأسه، تنتظر أصحابها بأكياس ليأخذوها بعد إخضاعها للترميم اللازم مقابل أجرة لا تتجاوز الـ 5 آلاف ليرة، لتخوض عمراً جديداً يجنّب صاحب كل منها دفع ثمن حذاء جديد حتى ولو كان مستورداً من بلاد الصين بسعر واصل إلى المستهلك بـ 20 أو 30 ألف ليرة، بحسب سعر صرف الدولار.
مهنة الكندرجي ليست الوحيدة على لائحة المهن التي ازدهرت واستعادت عافيتها نتيجة حالة التوفير التي تشهد أقصى درجاتها لدى معظم اللبنانيين، فهناك مثلاً الخياط ومحلات بيع الألبسة المستعملة ” البالة ” ومحلات بيع البهارات والحبوب والمسبحة تكر…
فبدل الزبون الواحد الذي كان يدخل البهجة الى قلب العاملين في هذه المهن، زاد الإقبال بنسبة تتراوح بين 50 و70% ليشكل متنفساً إقتصادياً للزبون ولأصحاب هذه المهن في آن، إستفادة مزدوجة تأتي تحت عنوان “مهن لم تهزمها الأزمة” لأصحابها الذين لا يزالون يتعاملون معها بعشق وشغف، باعتبارها المصدر الأول لرزقهم.
بعد تراجع العديد من المهن التقليدية واندثار بعضها، ها نحن نرى مهناً مثل “الخياطة” وتصليح الأحذية ومحلات الألبسة المستعملة “البالة” والحبوب والبهارات في مناطق لبنانية، تستعيد قدرتها على الصمود والإزدهار، مدفوعةً بطلبٍ كبير على ما تقدمه من خدمات وسلع تجنّب المواطن شراء الجديد منها أو ما ارتفع ثمنه.
فالمتجول في بعض أسواق بيروت التقليدية مثل “سوق الشياح الشعبي” أو “سوق الرحاب” أو “سوق حي السلم”، وحتى في النبطية، يتلمس الإقبال الكبير من مواطني الطبقتين المتوسطة والفقيرة عليها، بعدما كانت “البحبوحة” التي يتمتعون بها تقف حاجزاً بين الكثير منهم وبين الإقبال “غير العادي”، واليوم على الأرجح باتت محلات بيع الأحذية والألبسة الجديدة وربما اللحامين ومحلات بيع الدجاج تفتقد إلى نسبة كبيرة من هؤلاء.
الدولار خفّف من “البهورة” و”البريستيج”
الحاج خليل الحوراني، في منتصف عقده السادس، رجل دائم الابتسامة، يلبس زياً محلياً، يجلس يومياً في متجره الصغير في “سوق الشياح الشعبي”، واضعاً جانباً دفتراً وقلماً ليسجل ما يحتاجه كل حذاء من صيانة، قصدته “نداء الوطن” وكان منشغلاً في حديث مع زبونة قائلاً: “الآن لو وضعت بداخل حقيبتك حجارة فستحملها”، وذلك للدلالة على المتانة التي باتت حقيبتها تتمتع بها بعد خضوعها للمساته الـ”علاجية”، لتخرُج من عنده بشوشة الوجه وبعبارة “ممنونة أبو علي، سلّم دياتك”.
ويقول: “إن ارتفاع سعر صرف الدولار عكس عاملين إيجابيين عند المواطنين، أولهما أنّه أشعرهم بقيمة الأشياء التي يمتلكونها، وهذا ما خفّف من درجة “البهورة” والـ”بريستيج” وليس في الأحذية فقط، وثانيهما زيادة إقبالهم على تصليح الاحذية بنسبة 50%، بهدف التوفير الإقتصادي والتخفيف من استنزاف الراتب، ليذهب المبلغ المخصص لشراء حذاء الى شراء إحتياجات ضرورية أكثر، مؤكداً صوابية المثل القائل “مصائب قوم عند قوم فوائد”.
%70 يأتون بثيابهم المستعملة
مهنٌ أخرى نشّطتها الأزمة وأعادتها إلى الحياة ومنها الخياطة التقليدية التي كانت في طريقها إلى الإنقراض، فمع ارتفاع أسعار الألبسة عمل الكثيرون على المحافظة على بدلاتهم وقمصانهم وسراويلهم، من خلال صيانتها باستمرار لدى الخياطين لتعمّر أطول فترة ممكنة. ويروي الخياط وسام شمص الواقع الجديد للمهنة: “كانت نسبة زبائننا ممن يقصدوننا لتقصير أو تضييق ثيابهم الجديدة 70% مقابل 30% يأتون بثيابهم المستعملة للأهداف عينها، أما اليوم فانقلبت الآية وأصبحت نسبة الـ 70% لثيابهم المستعملة أو لثياب إشتروها من البالة بسسب الازمة الاقتصادية الخانقة، مشدداً على أن أسعارنا بقيت كما هي بالرغم من ارتفاع أسعار المواد الاولية بفعل ارتفاع سعر الدولار.
ويعتمد شمص مبدأ “بيع كثير وربح قليل” تعاطفاً منه مع معاناة الناس، فمثلاً البعض منهم تم توقيفه عن العمل وآخر يقبض نصف معاش، لافتاً إلى ازدياد نسبة الإقبال لديه من معظم المناطق المحيطة.
3 جاكيتات بسعر واحدة
ولعلّ سوق الثياب المستعملة المعروفة في الاسواق باسم “البالة”، كما يكشف العديد من المهتمين، هي الحرفة التي ازدهرت بشكلٍ واسع في الأسواق الشعبية في بيروت وضواحيها، وذلك لرخص أثمانها مقارنةً مع نظيرتها الجديدة، فقد دفع غلاء الأسعار نتيجة الأزمة التي يعيشها اللبنانيون منذ حوالى الشهرين، إلى تحول شريحة كبيرة لشراء هذه السلع بأسعارٍ زهيدة، ولا سيما ربّات المنازل وفئة الشباب والشابات وبنسبة أقل فئة الرجال، لأن النساء غالباً هنّ اللواتي يشترين لأزواجهن وأولادهن، كما تقول نهلة خليل (صاحبة بالة): “كل إثنين وخميس من كل اسبوع نُقدم بضاعة جديدة بأسعارٍ زهيدة، ثم نخفض الأسعار تدريجياً أيضاً بقية أيام الاسبوع”، مضيفةً أن الإقبال جيد والبيع يتحسن والحمد لله، لأن الزبائن تخبر أقاربها عن نوع البضاعة وعن أسعارها الزهيدة، فنراهم يزوروننا بعد أيام.
بيدَ أن هذه السلع والمنتج بعضها من ماركاتٍ عالمية تجد إقبالاً حتى من ميسوري الحال، فالبضائع لديها أوروبية، حيث بإمكان الزبون أن يشتري مثلا 3 جاكيتات ( نسائي أو رجالي ) بسعر جاكيت جديدة واحدة، كما وأنّها تدوم عند الزبون لفترة طويلة، في ظل ارتفاع أسعار الألبسة المحلية والمستوردة، وفق خليل.
الحبوب بدلاً من اللحوم والدجاج
وإنتقالاً إلى إحدى محلات بيع الحبوب والبهارات في أحد أسواق النبطية لصاحبه احمد علي إسماعيل، الذي يُفيد بأن “الإقبال زاد لدينا بنسبة 60% عمّا كان قبل الازمة، فقد زادت كميات البضائع التي يطلبها اللبنانيون، لكن نحن سندفع الثمن”، شارحاً: “لأن من قام بشراء 10 كيلو رز أو سكر، وفي حال إنفراج الازمة بعد إسبوعين، فإنه بالتأكيد لن يعود ليشتري هاتين السلعتين قبل أن يستهلك ما اشتراه، وإلا سيتحمل تكاليف إضافية، فيما هو يفكر بالتوفير”.
ويستدرك إسماعيل “لكن عمليات البيع إلى ارتفاع، لأنّ لا أحد يعرف حقاً في أي اتجاه ذاهبة الازمة ومتى وكيف ستنتهي”، مشدداً على أنه لم يعمد إلى رفع الأسعار، معترفاً في الوقت ذاته بفقدان أصناف من هذه السلع من الاسواق، في ظل إقفال بعض المعامل أبوابها وصرفها موظفيها، كأحد معامل السمسم (بسبب الخسائر التي لحقت به)، ملاحظاً أن ربات البيوت بتن يعتمدن على الحبوب على أنواعها في إعداد العديد من “الطبخات” لتجنّب شراء اللحوم.