انتهى عهد “الزنطرة ” وجاء وقت لبننة العمالة
غصباً عنه تخلى اللبناني عن “الزنطرة” التي كان معروفاً بها وصار يرضى بما لم يكن يظن يوماً أنه سيرضى به من أشغال أو وظائف. مع الازمة المالية الخانقة التي تقبض على عنقه و تكاد تقطع أنفاسه، لم يعد قادراً على المكابرة ولا يملك رفاهية الرفض اوالقبول، فإما البطالة والجوع أو الرضوخ للمتوافر من أعمال وإن كانت تشكل له سابقاً كوابيس يأبى مجرد التفكير بها. وظائف تعالى عنها اللبناني طويلاً ليجد أنها صارت منفذه الوحيد في ايام القحل التي يعيشها.
قطاعات كانت حتى الأمس القريب لطخة لا يرضى اللبناني أن “يبلّ” يده فيها، بلامبالاة مطلقة تقارب الغثيان كان يتركها للغريب، ليستنفد دولاراتها ويرسلها الى بلاده. اليوم الدولارات صارت عزيزة يقطّرها أرباب العمل على عمالهم الأجانب بالقطارة، واللبناني المعوز الذي سبقته الليرة بأشواط صار يركض وراءها ويسعى إليها أينما وجدت… قطاعات متعددة تحولت عن العمالة الأجنبية وعمال أجانب هجروا لبنان تاركين فراغاً كبيراً ينتظر من يملأه. فهل تكون العمالة اللبنانية هي البديل؟
لبنانيون يستجيبون لنداء الصناعة
القطاع الصناعي تلقف المشكلة سريعاً وأطلق عبر جمعية الصناعيين اللبنانيين حملة للإعلان عن عدد من فرص العمل المطلوبة في القطاع الصناعي في مجالات متعددة. الجمعية أنشأت عبر موقعها على الانترنت منصّة خاصة تشكّل صلة الوصل بين المصانع المنضوية تحت لوائها وطالبي العمل. السيد زياد بكداش نائب رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين فخور بهذه المبادرة ويبشّر عبر “نداء الوطن” أن الصناعة بخير وهي تزدهر وأن الخسارة التي تكبدتها فاتورة الاستيراد والتي وصلت الى 80% استطاعت الصناعة الوطنية ان تسدّ قسماً كبيراً منها وتشكل حائط الدعم للاقتصاد المنهار. من هنا باتت الحاجة ملحة الى المزيد من الاستثمار البشري في الصناعة.
قدمت المنصة عند انطلاقتها أكثر من 200 وظيفة و”الخير لقدام”. المبادرة لاقت صدى إيجابياً جداً من قبل المصانع التي وجدت فيها تلبية لحاجة ملحة، وسريعاً بدأ الباحثون عن عمل يقدمون سيرهم الذاتية عبر المنصة. الوظائف المعروضة كثيرة فمصانع جديدة أوجدتها الظروف الصحية والاقتصادية ومصانع موجودة زادت مروحة منتجاتها وزاد الطلب على موادها فصارت بحاجة الى المزيد من الموظفين والعمال. 850 مصنعاً منضماً الى جمعية الصناعيين يعمل فيها حوالى 195000 عامل بينهم 50000 تقريباً من غير اللبنانيين تراجعت نسبتهم بحدود 83% فصار هناك طلب كبير على العمالة اللبنانية خصوصاً بعد ان صارت كلفة العامل الأجنبي اكبر من كلفة اللبناني. لكن المشكلة يقول بكداش أننا لا نزال في بعض المناطق غير قادرين على إيجاد عمال لبنانيين، ففي كسروان والمتن مثلاً معظم العمال يأتون من مناطق بعيدة مثل عكار والبقاع بالباصات وقد يمضون ثلاث ساعات على الطريق فيما المصانع في البقاع او الضاحية لا تواجه هذه المشكلة. صحيح ان بعض الاشغال المعروضة تقدم الحد الأدنى للأجور لكنه يبقى أفضل من صفر ولا سيما أن المصانع تسجل معظم عمالها في الضمان الاجتماعي والصناعي. “قلبه كبير” يقول بكداش، من يقدم لعماله الكثير من المساعدات الغذائية والطبية وقد ترتفع الرواتب حسب الخبرة والوظيفة.
جمعية الصناعيين ناشدت وزارة الصناعة والاتحاد العمالي العام لتشجيع العمال على الانخراط في الأعمال الصناعية على اختلافها ولا سيما في ظل وجود بطالة عالية وقد آن الأوان كما في كل بلدان العالم ليتسلم اللبنانيون زمام الوظائف في قطاع الصناعة، فزمن الأجانب ولّى وجاء وقت لبننة العمالة في المصانع. ويؤكد احد المسؤولين في جمعية الصناعيين ان نسبة 20% التي كان يشكلها الأجانب بكلفة تتراوح بين 7 و8 ملايين دولار بالشهر باتت اليوم متوافرة أمام اللبنانيين ليعملوا بكرامتهم وينتجوا ويساهموا في انقاذ البلد بخاصة أن المصانع تفضل الاستثمار بالعامل اللبناني لتعليمه “المصلحة” وتدريبه كونه يؤمن الاستمرارية ولا يغادر بعد انتهاء عقده كما العامل الأجنبي.
نسأل السيد بكداش عن أعمال صناعية لا يزال اللبناني لا يرضى بها فيجيبنا بانه من المتعارف عليه عالمياً أن ثمة صناعات لا تقوم بها إلا فئات معروفة من العمال مثل الخياطة التي باتت عالمياً محصورة بالآسيويين من بنغلادش او فيتنام وسواها وكذلك أعمال الباطون في الورش التي يتولى معظمها السوريون.
الصناعة إذاً تنتظر بأذرع مفتوحة العمال اللبنانيين ليشدوا أزرها ولكن ماذا عن الزراعة هل يعود اللبناني إليها ليؤمن لقمة عيشه بعد أن هجرها طويلاً ام لا تزال بالنسبة إليه عيباً لا يسمح به “البرستيج”؟
لأن الزراعة مرادفة لمنطقة البقاع كان لا بد من التوجه الى الدائرة الزراعية في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في زحلة والبقاع لنطّلع من رئيسها سعيد جدعون على واقع العمالة اللبنانية في الزراعة في ظل الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف باللبنانيين.على الرغم من غياب الأرقام في هذا المجال إلا أن الملاحظات العينية تشير الى زيادة في عدد المستثمرين اللبنانيين في أراضيهم الزراعية أكثر منه في العاملين في الأرض يقول جدعون. حتى الآن لم تظهر بوادر زيادة عدد العاملين بايديهم بين اللبنانيين ربما لأن الموسم الزراعي لم يبدأ بعد وقد تزداد الأعداد لاحقاً مع بداية الموسم. الغالبية العظمى من العمال في البقاع هي من السوريين ويصل عددهم الى آلاف العمال الموسميين وهذا ليس بالأمر الجديد إذ لطالما كان الاتكال في الزراعة على اليد العاملة السورية ولكن الأعداد ازدادت بشكل كبير مع النزوح السوري وغالبية العمالة الزراعية السورية هي من النساء من عمر 14 عاماً وما فوق.
برأي جدعون الأزمة المالية لن تؤثر كثيراً على نسبة العمالة اللبنانية في الزراعة، فقد تنخفض نسبة السوريين من 95 الى 90% ربما لا أكثر ولن يشكل ذلك قفزة نوعية نحو زراعة تتّكل على اليد العاملة اللبنانية. فالعامل السوري يعمل مناوبة يومية لخمس ساعات ينال عنها 15000 ليرة وقد يعمل مناوبة ثانية بعد الظهر. قد يبدو الأمر مجحفاً بحقه ولكن حين نعلم أن 4 او 5 افراد من الأسرة الواحدة يعملون جميعهم في الزراعة فإن دخل العائلة يعادل يومياً ما بين 100000الى 200000 ليرة وفي حسبة شهرية يصل الأمر الى عدة ملايين مع مصروف محدود. أما اللبناني فلا يمكن ان يعمل بـ 15 او 30 الفاً في اليوم ولا سيما مع موجة الغلاء الفاحش التي نعيشها وحتى إذا نال مليوناً أو أكثر فالمردود لا يكفيه. ومن جهة أخرى هو يفتش عن أعمال تضمن له الاستمرارية وليست مياومة وعن عمل يؤمن له الانتساب الى الضمان الاجتماعي فيما العامل السوري لا تهمه هذه الأمور.
خدمات لبنانية الهوية
نتوجه الى شركة Ato Z التي تعنى بتأمين كافة الخدمات للقطاع العام اللبناني وللشركات والمؤسسات الخاصة لنسأل إذا ازداد إقبال اللبنانيين على بعض الأعمال التي كانوا يرفضونها سابقاً؟ يرسم لنا السيد غابي سمعان صاحب الشركة التي تعمل في السوق اللبناني منذ حوالى 45 عاماً خريطة واضحة عن اتجاهات العمل حالياً. فيقول كنا نؤمن حوالى 2500 وظيفة بينها حوالى 300 للاجانب اليوم انخفض العدد الى حوالى 500 وظيفة واكثر من 50% من الأجانب رحلوا.
بعض القطاعات مثل الأمن والحماية محصور باللبنانيين فقط لكن “الشغل خفيف” والعرض أكثر بكثير من الطلب. شباب لبنانيون يعرضون ان يتوظفوا كحراس وموظفي أمن وحماية لكن مع إقفال عدد كبير من الشركات وتراجع عمل الفنادق والمطاعم والمنتجعات خفّ الطلب كثيراً على هؤلاء.
بالنسبة للتنظيفات فإن القطاع يشهد مغادرة واسعة للعمال الأجانب بطريقة دراماتيكية لتحل محلهم اليد العاملة اللبنانية. الأمر مفاجئ بلا شك حين نتذكر ما تعنيه هذه الأعمال بالنسبة إلى اللبناني “المزنطر” لكن وبحسب سمعان ثمة خزان كبير من اللبنانيات من مناطق محددة يتهافت على هذه الأعمال فيما يبقى عدد الرجال قليلاً في عمل يعتبر بالنسبة إليهم من المحرمات، لكن النسبة لا تستطيع أن تؤمن كل الطلب. ويؤكد سمعان ان شركته تتعامل مع وزارات عدة ومؤسسات قطاع عام ولها بذمتها مدفوعات كبيرة لقاء اعمال التنظيف لذلك فإن شركته وشركات الخدمات اليوم لم تعد تشارك في مناقصات القطاع العام لتمنُّع هذا الأخير عن دفع المتوجبات عليه. لذلك خف الطلب نسبياً على عمال التنظيف اما السفارات والمصارف والشركات العالمية فما زلنا نؤمن لها عمال نظافة معظمهم من الأجانب لأنها تدفع بالدولار.
خدم المنازل قصة أخرى ولا شك ان عهد العاملات الأجنبيات قد انتهى إلا قلة قليلة لا تزال باقية للحاجة الماسة إليها. هنا الطلب كبير جداً لكن التلبية شبه معدومة فقليلات هن اللبنانيات اللواتي يرضين بالنوم او العمل طوال اليوم في منزل مخدومهن إلا إذا كانت الحاجة ملحة جداً والراتب مغرياً بسبب وجود عجوز مثلاً في البيت أو مريض يحتاج الى رعاية.
في الخدمات الأخرى مثل رش المبيدات او صيانة الحدائق فإن السوريين لا يزالون يسابقون اللبنانيين الذين لم يدخلوا بعد هذه القطاعات رغم إن هؤلاء قد رفعوا اسعارهم بشكل كبير، أما صيانة المباني فكانت ولا تزال مهمة اللبنانيين يقومون بها بطيبة خاطر ولا يقبلون منافسة.
لا شك ان العامل الأجنبي يكلف شركة الخدمات ما بين 400 و500 الف ليرة شهرياً وهو رقم قريب من الحد الأدنى للأجور للعامل اللبناني لكن كلفة هذا الأخير أعلى ولا سيما أن الشركة مضطرة الى “تنسيبه” الى الضمان الاجتماعي، وعلى الرغم من هذا فإن الشركات مستعدة ان توظف لبنانيين شرط ان يعطي اللبناني مثل الأجنبي الذي غالباً ما يكون مستعداً للعمل بظروف اصعب حتى ينال راتباً أعلى وكل قرش يحصّله مفيد له. ولكن ما تعاني منه الشركات ليس تقدّم الشباب للوظائف بل عدم ثباتهم فيها.
وحدهم أرباب العائلات وربّاتها الذين يتحملون مسؤولية عائلة ويجدون أنفسهم مضطرين للعمل تحت اي ظرف يثبتون في وظائفهم على أنواعها طالبين السترة لهم ولعائلاتهم.