يختلف اللبنانيون حول معظم القضايا ومواجهة تداعيات التطورات التي تفاجئهم، إلا أنهم يجمعون حول ضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية وحفظ موقع الرئاسة التي ترمز لوحدة الوطن ووكالته عنهم للسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه، وفق ما جاء في الدستور.
موقع رئيس الجمهورية هذا لا يمكن أن يقبل الفراغ وهذا ما تفهَّمه اللبنانيون جيداً بإجماعهم على ضرورة انتخاب الرئيس، بعد أن خلت سدة الرئاسة من شاغلها برغم ما وضعه المشترع من احتياجات لمنع الخلو. ويبدو واضحاً من عدد الدعوات التي وجهها رئيس المجلس النيابي نبيه بري لانتخاب الرئيس، التي وصلت إلى عشرين دعوة، أن «خلو السدة» لم ينشأ عن قصور في أحكام الدستور بقدر ما هو ناتج عن التزام طبقة سياسية معنية بالانتخاب الرئاسي بمصالحها وارتباطاتها إلى حدود تقديم هذا الالتزام على النصوص والدستور ومصلحة البلاد والعباد.
لا شك بأن هذا الواقع هو شكل من أشكال «المصيبة الوطنية»، وبذلك فهو خطر بحد ذاته. إنما ما هو أدهى أن تستولد هذه «المصيبة» «عوائل» لها، برغم أنها لا تتوافق معها لا برابطة دم ولا حسب ولا نسب، كما في اعتبار أن الحرص على موقع رئاسة الجمهورية يمر أو يقتضي إحداث شلل في المؤسسات الدستورية الأخرى، أي مجلس النواب ومجلس الوزراء!
بصرف النظر عن تجاوز مثل هذا الاعتقاد للقواعد الدستورية الراسخة القائلة بتحريم الفراغ في عمل المؤسسات، يمكن القول إن مقام رئاسة الجمهورية لا ينشأ من ذاته وشخصه إنما مما أولاه الدستور له، خصوصاً لجهة تنصيبه «الساهر على احترام الدستور»، بدليل أن تجاوزه لمثل هذا الاحترام يؤدي إلى زعزعة موقعه وسحب ثقة اللبنانيين في مراهنتهم عليه في قيادة البلاد، وهذا ما حدث في مرات عديدة ما تزال ماثلة للأذهان.
انطلاقاً من هذا يصبح العمل لضمان استمرارية موقع رئاسة الجمهورية ودورها هو الأساس، وليس وجود الشخص في موقع الرئاسة، ولهذا احتاط المشترع عند توصيفه لموقع الرئيس، فاتخذ أقصى حدود الاحتياط عندما افترض حدوث خلو في سدة الرئاسة للقول بوضع المقام بالوكالة في ذمة مجلس الوزراء، وبذلك يكون قد كفل استمرارية الدور وتجاهل استمرارية الرئيس. ومن هنا يمكن القول إن الحرص على موقع الرئيس يكون في تأمين استمرارية دوره وليس باستمرارية وجود شخصه.
وما يجب الإشارة إليه هنا أن إناطة صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء إذا ما خلت سدة الرئاسة، وتكون بالوكالة التي لا بد من أن تأخذ بالمبادئ القانونية المصطلح عليها ومنها أن الوكالة التي تكون مطلقة، بمعنى أنها لا تتضمن شروطاً ومواضيع محددة، كما في المادة 62 ـ دستور التي لا تعني أكثر من ممارسة التوكيل بالحدود الضيقة لتصريف الأعمال، بحيث لا يقْدم الموكل (مجلس الوزراء) مثلاً على الإفادة من المادة 52 ليفاوض على عقد المعاهدات وإبرامها وغيرها من الصلاحيات العديدة المنوطة برئيس الجمهورية، أي الموكل.
من هنا يكون الحرص على موقع رئاسة الجمهورية بالتمسك في عدم استقلال خلو السدة لنقل عدواها إلى مجلس النواب أو مجلس الوزراء أو المجلسين معاً كما هو حاصل اليوم، فموقع الرئيس أكبر وأجلّ من أن يتحول إلى معطل للمؤسسات والدولة ومصالح المواطنين تحت أي ذريعة كانت، خصوصاً الطائفية أو السياسية. بدليل أنه إذا عمل مجلس الوزراء، عند ممارسته الوكالة عن الرئيس، بمفهوم وحدود هذا التوكيل، فلا يمكن أن يتخذ «مرسوماً» يقيم البلاد على البلاد، خصوصاً أن رئيس الحكومة تمام سلام مدرك لحدود ممارسة الوكالة، وأن أي تصويت على «القرارات الرئاسية» لا يمكن أن يصدر بفعل استئثار طائفة أو مذهب على أي طائفة أو مذهب آخر.. فلماذا لا يحسن الظن بتمثيل الطوائف في مجلس الوزراء؟!