لم يعد ما يُحكى عن «تسوية الترقيات» يعني «التيار الوطني الحر» من قريبٍ أو بعيدٍ، مهما قيل ويُقال عن إعادة إحياءٍ لـ«الوساطات» على خطّها، أو عدم استسلام «عرّابيها».
خلال الساعات الماضية، حسم «التيار» أمره. في قاموسه، باتت التسوية في خبر كان، وهو لم يعد يكترث لنوايا هذا الفريق أو ذاك، سليمة كانت أم مشبوهة. لم يعد يعنيه الابتزاز الذي يمارسه هذا والضغط الذي يلجأ إليه ذاك، لفرض «أمرٍ واقعٍ» على رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون يلزمه بـ «هدايا مجانية» للآخرين لم تكن «لا عالبال ولا عالخاطر».
من هنا، ترى مصادر نيابية محسوبة على «التيار الوطني الحر» أنّ «سلوك» هؤلاء الأفرقاء طيلة المرحلة السابقة يدينهم بالجرم المشهود في ما يحاولون اتهام غيرهم به، فهم الذين سعوا لـ «ابتزاز» التيار بـ«أرخص الطرق»، عن طريق إيهامه بأنّهم واقفون إلى جانبه لتحقيق مطالبه «المُحِقّة»، فيما كانوا يضعون العراقيل والمطبّات في وجهه من كلّ حدبٍ وصوب، وفي أحسن الأحوال كانوا يوسّعون قائمة «الشروط المضادة»، من فتح أبواب المجلس النيابي وتفعيل الحكومة، إلى تغيير آلية عمل الأخيرة وصولاً حتى الانقلاب على بعض المعادلات الثابتة التي تمّ الاتفاق عليها، وكلّ ذلك «على عينك يا تاجر».
ترفض هذه المصادر تسمية «المعرقلين» الذين تتحدّث عنهم، لأنّ «المنظومة كلّها» مُدانة برأيها بشكلٍ أو بآخر. هي لا تقتنع مثلاً أنّ الرئيس السابق ميشال سليمان، الذي استغلّ الفرصة للمزايدة على التيّار نفسه بحبّ الجيش، مرتضيًا لنفسه لقب «الشيطان الأكبر» في سبيل حماية الجيش، يستطيع أن يتّخذ قراراً ما ويمضي به حتى النهاية، متحديًا به الطبقة السياسية برمّتها، وحلفاءه قبل خصومه. وهي لا تقتنع أيضًا بأنّ «تيار المستقبل» لم يعد له أيّ مَونة على حلفائه، وفي مقدّمهم «حزب الكتائب»، وأنّه لا يستطيع أن يقنعه بالسير بتسويةٍ ما، إذا كان مقتنعًا فعلاً بجدواها، ولم يكن الأمر مجرّد توزيع أدوار فيما بينهما. وهي لا تقتنع كذلك الأمر بأنّ «الوحي» سقط فجأة على رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط، فباتا مقتنعين بمطالب «الجنرال»، بل يناضلان من أجل تحقيقها، من دون أن يكون لهما «أجنداتهما وغاياتهما الخاصة».
ولكنّ المصادر تؤكد أنّ «التيار» بات الآن مرتاحاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى، مشيرة إلى أنّ محاولات جعله «رهينة تسويةٍ افتراضيةٍ وهميةٍ» سقطت اليوم، تسوية لم يكن «التيار» أصلاً راضيًا عنها يومًا، تقول المصادر، معتبرة أنّه من الظلم والافتراء تصويره وكأنّه من طالب بها، في حين أنّ كلّ ما طلبه هو حلّ قانوني لمسألة قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز، بعيداً عن «بدعة التمديد» أو «تأجيل التسريح» التي اعتُمِدت مع القادة الأمنيّين الآخرين، وإذا بهذا الطلب البسيط يتحوّل إلى «جائزة ترضية» على «التيار» أن يدفع ثمناً باهظاً مقابلها، وهو ما لم ولن يقبله «التيار»، ولا يقبله روكز نفسه بطبيعة الحال.
الآن فقط، تحرّر «الوطني الحر» من عبء «حملٍ ثقيلٍ» حاول الكثيرون إطالة أمده على كاهله، تقول المصادر. برأيها، «المعادلة» اليوم تغيّرت: التسوية سقطت، ومعها كلّ «الهدايا المجانية» التي وعد بها «المعطّلون» أنفسهم بها من غير وجه حق. وبنتيجة ذلك، فـ«التعطيل البنّاء» سيكون سيّد الموقف في المرحلة المقبلة، فالآلية الحكوميّة ستبقى على حالها بعد سقوط محاولات تعديلها بطرقٍ احتيالية والتفافية، وبالتالي فإنّ إنتاجيّتها ستبقى ضعيفة بل معدومة، والأمر نفسه سيسري على المجلس النيابي، ليبقى تشريع الضرورة حلمًا يراود البعض، لا أكثر ولا أقلّ.
عمومًا، فإنّ كلّ هذه التفاصيل تبقى «متروكة» حتى الأسبوع المقبل، لأنّ اهتمام «التيار» منصبٌ الآن حصراً على التظاهرة التي يعتزم القيام بها يوم الأحد المقبل، والتي يبدو أنّ تطورات الساعات الأخيرة ستخدمها وتفيدها، من حيث لا يدري «المعطّلون». لا تتردّد المصادر في توصيف هذه المظاهرة بأنّها ستكون «مفصلية»، وبأنّ «ما قبلها لن يكون كما بعدها»، بل تذهب لحدّ اعتبار المظاهرة الأخيرة في ساحة الشهداء مجرّد «بروفا» لها.
وإذا كانت مظاهرة ساحة الشهداء أيقظت ضمير الكثيرين ممّن أدركوا أنّ لـ«التيار» حاضنة شعبية أكبر ممّا يتوهّمون، وبالتالي فإنّ تجاهله أو تهميشه غير وارد أو مُتاح، فإنّ مظاهرة قصر بعبدا، وفقاً للمصادر نفسها، ستكرّس «نهاية مرحلة التسويات»، وستعيد رسم خطوط عريضة لن يكون ممكنًا للتيار «البرتقالي» تجاوزها بعد اليوم، وأولها استعادة رئاسة الجمهورية من «محتلّيها» و«ناهبيها» و«مصادريها»، واستعادة مجد بعبدا، وبالتالي الإصرار على مطلب انتخاب الرئيس القويّ، شاء من شاء وأبى من أبى.
أما «خارطة الطريق» التي لن يكون هناك مجالٌ لغيرها في المرحلة المقبلة، برأي المصادر، فهي تقوم على انتخاباتٍ نيابية أولاً وفق قانون انتخابٍ جديدٍ يقوم على أساس النسبية، باعتبارها مدخل الحلّ، كونها ستؤسّس لطبقةٍ سياسيةٍ جديدةٍ مؤهّلة لإدارة البلاد والعباد، ولانتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية، خصوصًا أنّ مرحلة انتخاب رئيسٍ كيفما كان، التي لا يزال يسعى إليها البعض، باتت من الماضي.
هكذا إذًا، شمّر «التيار البرتقالي» عن زنوده. بدل أن يكون سقوط التسوية نقطة ضعفٍ له، قرّر أن يكون العكس صحيحاً. التسوية سقطت، ربما، ولكنّ أساليب الابتزاز والاحتيال الرخيصة سقطت قبلها، والهدايا المجانية سقطت هي الأخرى. التسوية سقطت، ربما، لكنّه سقوطٌ قد يمهّد للنجاح الأكبر الذي يريده «التيار»، نجاحٌ باستعادة الجمهورية والوطن، كلّ الوطن…