ندري اليوم ما هو شكل العالم الذي يحيي الذكرى المئوية لانطلاقة الحرب العالمية الأولى، لكن من الصعب استشراف حال العالم في الذكرى المئوية لانتهاء ذلك الحريق العالمي.
فشريط الأحداث التي مرّت علينا منذ شهور، يُظهر منحى جديّاً للمخاطرة بالسلام على كوكبنا، على خلفية توسع حلف شمال الأطلسي في «العمق السوفياتي»، وتهاوي الحكم المؤيد لموسكو في كييف، والرد الروسي بضم شبه جزيرة القرم، ورعاية الانشقاق في الشرق الاوكراني، ثم «الرد على الرد»، بالعقوبات الاقتصادية الغربية، فالمضاربة النفطية.
لم يدخل العالم في حرب عالمية جديدة في ذكرى الحرب العالمية الأولى، لكنه أوحى بأنّ السلام العالمي ليس مضموناً بما فيه الكفاية. واذا كانت الحرب الباردة قد انتهت، فهذه الحرب كانت باردة في اوروبا وساخنة في المستعمرات الاوروبية السابقة وراء البحار. أما اليوم، فان التصادم ساخن في شرق الشرق الاوروبي: اوكرانيا والبحر الاسود. هذا لم يكن ممكناً في ايام الحرب الباردة لسبب بسيط: ففي ظروفها، لم يكن التصادم ممكناً، في شرق اوروبا، بحرب المواقع فحسب، وكان اي صراع من هذا النوع سيستنفر الورقة النووية رأساً، تماماً كما حدث في المواجهة الحاصلة في الشطر الغربي من الكوكب، ابان ازمة خليج الخنازير.
اما في ظروف ما بعد الحرب الباردة، فالمواجهة الاميركية – الروسية تتخذ لنفسها صفة «حرب المواقع» شرق اوكرانيا، اي شرق اوروبا الشرقية، وشرق اوروبا ككل. من جهة، درجة الخطورة أقل: الرعب النووي الرادع غير مستحضر. من جهة ثانية، درجة الخطورة أكبر: آليات اخماد الحريق غير مضمونة أبداً، فلا «الخط الأحمر» بين الجبارين ما زال سالكاً، ولا المؤسسات الدولية قادرة على ضبط التوتر المتنامي، واذا كانت أحلام الشيوعية تبدو مجرّدة وخاملة للمواطنين السوفيات، فان معركة «الصراع من أجل البقاء»، مغمّسة بالمظلومية، تبدو أقرب الى قلوب الناس وجوارحهم، سواء في روسيا او في سائر العالم.
اذا كان العالم يحتمل مثل هذه الخطورة في مئوية الحرب الكبرى، يصير وجيهاً السؤال عن امكان معالجة هذه الخطورة او على العكس من ذلك تفاقمها في السنوات المقبلة، وصولاً الى مئوية انتهاء الحرب العالمية الأولى.
كان يمكن للحرب الكبرى ان لا تحدث، وكذلك الحرب العالمية الثانية. بالتوازي، لا يجوز التصرّف كما لو ان ضبط الكباش العالمي اليوم تتكفّل به يد خفية راعية ولا قلق. ليس هناك ما هو اكثر ابتذالاً من استسهال توقّع «حرب عالمية ثالثة». لكن، في الوقت نفسه، ليس هناك ما هو أكثر إلحاحاً، من ضرورة الاقرار بأنّ عالمنا يعجّ بمخاطر متنامية وببؤر مستفحلة تهدّد مسار السلام العالمي، وتفتح من ثم الطريق، للعدوانيّات.
قد يكون هذا الكلام «أبوكاليبسياً» عشية الأعياد، وبالذات عيد الميلاد. لكن المسيحية كانت أيضاً، ذلك الدين الأبوكاليبسي بامتياز، دين لا يؤمن بهذا العالم، ويهجو «روح العالم». هجاء روح العالم اليوم يعني الفطن أولاً الى ما به من مخاطر على السلام العالمي، وعدم تضييع هذا المرتكز، عند النظر الى تقلّبات السوق العالمية، وانهيارات الروبل الروسي، وتصاعد الروح العدوانية بأشكال مختلفة عبر العالم. هب ان الحال ستستمر على هذا المنوال لأعوام، يصبح حينها السؤال عن وضع العالم عند الاحتفال بمئوية نهاية الحرب الكبرى سؤالاً فيه شيء من الرعب.