IMLebanon

دروس كاسترو و«استقلال لبنان»

لم يغادر دون أن يُعطيَ لنا دروسَه الأخيرة. حياته مليئة بالدروس، ومن مكان إقامته الأخير، كان يستكمل ثورته بتأملاته التي لم تكن أقل ثورية من سابقاتها. كان يستكمل ثورة شعبه التي قادها مع رفاق دربه، مع وجه الثورة الآخر، «غيفارا»، يستكملها في الوطن الذي انتصر وسينتصر، صموداً في وجه الحصار اللاإنساني الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية، ضد كوبا الوطن والرمز، يستكمله دروساً لثورات وشعوب أميركا اللاتينية، بل إنه كان يستعملها دروساً لكل شعوب العالم في وجه «الباتيستات» المنتشرة من عملاء الاستعمار في كل أنحاء الأرض.

أول الدروس، أن لكل «باتيستا»، «كاسترو» و «غيفارا» وشعباً ثائراً يأخذ أمره بيده. وأن «كاسترو» و«غيفارا» وبعدهما «تشافيز» ورفاقه، لهم تراثهم المزروع في التاريخ، لهم «مارتي» و«بوليفار». نعم كان يمكن لنا أيضاً ولحركاتنا الثورية، أن لا تنسلخ إلى حد كبير عن تراثها الثوري وتفتش في تاريخنا القديم والحديث عن حالات ثورية تتأقلم مع فكرنا الثوري، الماركسي الاشتراكي، لتؤسس فكراً ثورياً عربياً وفي مكان ما كردياً أو أمازيغياً وسواه من شعوب المنطقة لنحصل على الاستقلال الحقيقي والحرية والمساواة.

الدرس الثاني، هو ما يمكن أن يقارنه «كاسترو» و«غيفارا»، إذا ما التقيا اليوم، ما هو «مشترك» أو «مختلف متكامل» في مسيرتهما. أي كيف يمكن أن نستفيد من المخزون الإيجابي لشعوبنا، وأن نُحَوِّل تناقضات المنطقة إلى عامل قوة في وجه التناقض الرئيسي. لقد نهبت الإمبريالية ثروتنا، وأرضنا وفلسطيننا، وحولتها جميعاً إلى نقطة انطلاق في سيطرتها على العالم. فهل استطعنا أن نحول فقر شعوبنا إلى قوة؟

هل استطعنا أن نحول اغتصاب فلسطين، إلى عنصر إغناء لحركتنا الثورية، باتجاه تحريرها وباتجاه تحرير كل شعوبنا من ظلم الحكام وتآمرهم وتبعيتهم للخارج؟

لا أقول إننا لم نحاول، حاولنا أو على الأقل، حاول بعضنا في لبنان والعالم العربي، ولكن لم تكتمل المحاولات. حاول عبد الناصر، حاول كمال جنبلاط وبشكل خاص حاول جورج حبش وجورج حاوي، وعندما أذكر الأشخاص أعني أحزابهم وقواهم، ولكن لم تكتمل هذه المحاولات. ألا يستدعينا رحيل ذلك الملهم الكبير إلى دراسة ثغرات هذه المحاولات واستكمال إيجابياتها، مسلحين في آن بفكرنا الثوري وبتراث شعوبنا وكل ما فيه من ضياء.

والدرس الثالث، في استنفار مكامن القوة، هو اقتران التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي. فلم يكن لدى ثوار كوبا، رفاق «فيديل» و «تشي»، السلاح الكافي لمواجهة الغزو الأميركي الذي استهدف ضرب الثورة. فكان أن أطلقوا صرختهم واستنفروا فقراء كوبا، بأن الغزو يستهدف مستقبلهم وسرقة مكتسبات ثروتهم، فكان قرار توزيع الثروة على الفقراء أقوى بكثير من سلاح المستعمر وكان الانتصار. كانت الاشتراكية سلاحاً عادل به قادة الثورة طائرات وصواريخ الولايات المتحدة ومخزونها النووي.

واستمرت هذه المزاوجة، باستنفار الوطني الاجتماعي عندما يتعلق الأمر بالتطوير والانتاج والمساواة، واستنفار الاجتماعي الوطني، عندما يتعلق الأمر بسيادة الوطن وكسر الحصار.

]]]

ومن الدروس، درس خاص، أعترف، أن الحزن لغياب هذا القائد، الكبير، «رفيق تشي»، وملهم ثوار العالم، ساهم في فك عقدة كانت وما زالت عالقة في لساني.

هي عقدة «سايكس ـ پيكو»، ليس في لبنان فقط، بل في كل العالم العربي.

إن رحيل «فيديل» والاسترجاع السريع لتراثه، يدفعني اليوم للاعتراف بأنني لم ولن أفرح بـ «الاستقلال اللبناني»؛ أولاً لأنه يَسرق من تاريخنا ومن أحلام شبابنا وأطفالنا، يَسرق من ذكرى شهدائنا تطلعَهم إلى «الاستقلال» بمعناه الحقيقي.

ليس استقلالاً، من يساوي الاستقلال عن الغرب، بالمسافة عن الانتماء العربي. ليس استقلالاً من يحوّل عداء لبنان وحذره باتجاه شعبي فلسطين وسوريا، ولا ينظر إلى الخليج العربي إلاّ «كرضاعة» تؤمن بعض القروش للأتباع من زعامات لبنان وقواه السياسية.

ليس استقلالاً، ذاك الذي تصبح فيه وبظله وباسم سيادته، العمالة وجهة نظر، تُشهَر في وجه «المقاومة» في أي لحظة، بحجة مصالح هذه الطائفة وذاك المذهب.

ليس استقلالاً من يُبقي على الطائفية وقواها، محتلة لكل القيم، والمقدرات. هو احتلال «الطوائف» لمشروع الوطن ولهذا الجزء من العالم العربي، لتكون أداة لسيطرة برجوازيتها التابعة، ومن جهة أخرى جسراً للتآمر ليس على لبنان، بل على كل ما هو تقدمي وشريف في العالم العربي.

]]]

إن فرحة «الاستقلال» تكون بتحقيق كامل لمقولة، الشهيد الكبير «فرج الله الحلو» أحد أبطال معركة الاستقلال الذي لم يتحقق، مقولته في: «أن يكون هذا الساحلُ العربيُّ (لبنان) منبتَ حركةٍ وطنيةٍ عربيةٍ جديدةٍ». دورها ليس محصوراً في مساحة جغرافية أسموها لنا جمهورية، بل تمتد بتأثيرها، طليعة لحركة تحرر عربية باتجاه «وطن عربي حر وشعب عربي سعيد».

(]) الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني