في هذا اليوم الذي يتّسم بالحزن والغضب، فقدت البشرية آخر عمالقة القرن العشرين بعد ايزنهاور، تشرشل، ستالين، ديغول، غاندي، عبد الناصر، جواهر لال نهرو، أحمد سوكارنو، جوزيف تيتو، حافظ الأسد، نيلسون مانديلا والإمام الخميني الذي أحدث انقلاباً في الشرق.
مات آخر العمالقة من الذين تركوا بصماتهم على الأحداث الإقليمية في (أميركا اللاتينية) وحول العالم من الشرق الاوسط الى أفريقيا وساهموا في صناعة التاريخ وصياغته.
مات آخر العمالقة الذي ترك السلطة بمحض إرادته ومضى يكتب تأمّلاته، وأبرز أنه يتابع ويعرف تطور أجور العمال وأسعار السلع حول العالم والوقائع المتصلة بمنظمة التجارة العالمية عبر القارات والحدود الوطنية، ويعرف.. ويعرف، وقد حذّر كاسترو من تفاقم خطر الإرهاب على الأمن والسلام الدوليين وانحاز دائماً الى قضايا الحرية والحقوق والأماني الوطنية للشعب الفلسطيني.
مات كاسترو، لكننا سنصادفه دائماً يجالس (غابريل غارسيا ماركيز) ويتجاذبان أطراف الحديث عن (رسائل الكولونيل) ومئات السنوات من العزلة.
مات فيديل كاسترو، قبله مات تشي غيفارا، ولا تزال أميركا اللاتينية تعيش مخاضاً كبيراً.. تلد أو لا تلد.. تلد أوطاناً تعيش بكرامتها.. تلد قادة (هوغو تشافيز) ثم تكاد فنزويلا تسقط في الوحل.
فيديل كاسترو آخر البطاركة.. البابوات.. في منطقة تزخر بالمطارنة الحمر والثوار وبشعوب تحسّ بالوقت ولديها شعور متزايد بالحرية والكرامة.
عندما قابلته في زيارتي اليتيمة إلى كوبا استغرق الأمر في المرة الأولى ساعة.. ساعتين.. ربما أكثر حتى استطاع الوصول إلينا في حفل الاستقبال الذي تلى العيد الأربعين للثورة في كوبا.. يومها تهامسنا متفقين أن نجتمع في اليوم التالي.
كان الشريط الحدودي في جنوب لبنان لا يزال محتلاً واهتمّ كاسترو أن يعرف عن حياة الناس عندنا.. عن كمية الامطار التي تتساقط سنوياً(!).. عن زراعتهم ومن يشتري محصولهم.
سأل كاسترو عن المقاومة.. يومها كان قد استشهد للتوّ البطل حسام الأمين.. قال: لا تدعوا المقاومين يركبون توابيت معدنية (سيارات)! أشعرني بأنه متأكد، بأننا سنحرّر أرضنا وقد فعلنا في حياته..
أنا أعبر عن حزني الكبير، لأن كاسترو يفارق العالم الغامض الملتبس.. المتوتر الذي ينزلق إلى عالم من القوميات المتنافسة الغاضبة.
يذهب كاسترو في رحلة جسده إلى استراحة التراب، وهو يترك عيناً على الشرق الأوسط وأخرى على اميركا اللاتينية.. يتخوّف علينا ونحن نتمسك بالالتزام بأننا (لا نعطي إعطاء الذليل ولا نقر إقرار العبيد). تلك هي مسيرتنا ومسارنا منذ الإمام الحسين (ع) إلى عالم غيفارا وكاسترو، إلى مقاومتنا اليوم التي أطلقها الامام الصدر الى سوريا والعراق، لعلنا ننتصر.
مات كاسترو.. عاش كاسترو.. إنه روح ثائرة تمتدّ من كوبا الجزيرة التي جعلها الاستعمار سجناً للعبيد قبل نقلهم الى العالم الجديد والتي صارت قبلة للثوار.