لا يترك الخبر السوري مكاناً لغيره. وتيرته وسرعته وتقلباته ودمويته ومفارقاته، تعبئ كل فراغ وتطغى على اي تطور خبري آخر، أينما كان في هذه الدنيا، وأيًّا كانت ملابساته وظروفه وتكويناته.
وذلك في كل حال، لا يعني في المقلب الآخر، سوى الدلالة الفجّة على عدم الاتزان في ابرز سمات العصر، والتي يمكن اختصارها بمعطيي الحداثة والعولمة. بحيث ان تطور الآلة وتقنيات التصنيع وسهولة التواصل والانتشار، لم يعنيا تطوراً حاسماً في آليات رد الفعل البشري على الانتهاك المرير للحياة وكرامات البشر، ولا على الفتك المنظّم بمفهوم الانسنة في ذاته.
بعد الحرب العالمية الثانية، اظهرت المحاكمات، السياسية والجنائية والاخلاقية، ان كثيرين من «المتهمين» في المانيا النازية كما في اليابان الامبراطورية تمترسوا خلف مقولة الجهل بما كان يحصل! وذلك ادعاء، امكن الأخذ به في حالات كثيرة، باعتبار ان آليات التواصل كانت أقل تطوراً وانتشاراً وشيوعاً من آليات التدمير والقتل والإبادات والفظاعات، مثلما ان رقعة الحرب كانت واسعة وطاغية الى حد ارتداد جموع كثيرة الى ذواتها وبحثها عن خلاصها، قبل ادعاء القدرة على الاهتمام بمصائر غيرها او حمل هموم أوسع مدى من الذات والعصبة الدموية القريبة.. والقريبة جداً!
ومع ذلك، فان التاريخ وأحكامه، وارادة المنتصر في تلك الحرب، لم تبرئ أحداً! لا المرتكب المدان مباشرة، ولا مدّعي الجهل، وبقيت ألمانيا، (ولا تزال حتى اليوم) تدفع للبشرية كفّارات مادية واخلاقية، عما فعله جيلها النازي الذي لحق الإحياء القومي الهتلري وأوصل الرايخ الثالث الى ذرى غير مسبوقة.. والى ارتكابات لا مثيل لها، سوى في روايات الفظاعات الاولى! مثلما بقيت اليابان ولا تزال، اسيرة تاريخها الآسيوي، ومركوبة بعُقد ذلك التاريخ كما بأثمانه التعويضية للضحايا، كما في تركيب بنيتها النظامية التي عنت، اول ما عنت، قمع العسكرة فيها الى آخر حدود القمع!
المفارقة، في الزمن الراهن، ان كل شيء في سوريا، يجري على المكشوف. وعلى الهواء مباشرة.. ولا يمكن لابن امرأة في هذه الدنيا، ادعاء الجهل بما يحصل. وبالفظاعات الإبادية المرتكبة في حق شعب بأمه وأبيه وكل سليلته! ومع ذلك فان المساحة كافية، بالسياسة والاعلام ومكارم الاخلاق، لأن يجلس المرتكب والمجرم والسفّاح، في مكان الضحية! بل ويذهب في أدلجة إرهابه الى حدود محاكمة تلك الضحية! وتبرير الفتك بها، وتسويق ما يفعله تحت مبررات، تبدأ بالإرهاب وتمر على المقدسات (الدينية) وتصل الى المصالح والقياسات السياسية الخاصة بعلاقات الدول ومحاورها ومَدَيات نفوذها!
وليست خلاصات النكبة السورية على صلة بالمرتكب وحده، بل بالذي يتفرج عليه وعليها أيضاً! والذي يعرف تماماً وبالتفصيل الممل، كل شاردة وواردة وطالعة ونازلة من الجرائم المخزية التي ترتكب وتنفّذ.. ومع ذلك يجد هذا المتفرج (الجالس في البيت الابيض أولاً!) ما يكفي من مبررات لادعاء الجهل! ولإشاحة نظره الى الجهة الأخرى! مفترضاً ان الزمن أقل حداثة وعولمة عما هو عليه! ومقتنعاً بالقدرة على تطويع رد الفعل البشري وإبقائه دون مستوى الآلة وحداثتها وانتشارها!