IMLebanon

نكباتُ السِلْم اللبناني الصامتة [2]

 قرأتُ مؤخّرا لشخصية محترمة من محرّكي أفكار 14 آذار ما معناه أن المشكلة الأخطر الآن على لبنان هي الصدام السنّي الشيعي الذي يجب وقفه حفاظاً على لبنان. هذا، بصراحة، تطوّرٌ بل تغييرٌ مهمٌ في تفكير النخبة المسيحية السياسية في 14 آذار أو بعضِها الذي كان يعطي الانطباع طويلاً، منذ عام 2004، على أنه يراهن ضمنا أو حتى علنا  أحياناً على أن الصراع السني الشيعي يخدم موقع المسيحيّين. (راجع الحلقة الأولى في عدد الخميس 12 – 2 – 2015).

لاحظوا معي أننا نركِّز هنا على المدن المسلمة الكبرى بعد بيروت وهي بصورة خاصةٍ طرابلس ووصيدا وصور وبيروت التي قسَمَتها الحرب الأهلية إلى مدينتين واحدة مسيحية صافية  في الأشرفية وأخرى مسلمة شبه صافية في بيروت الغربية. شبه صافية لأن الجامعة الأهم في الشرق الأوسط وهي الجامعة الأميركية في بيروت وبعض المؤسّسات التعليمية الأخرى وأبرزها الجامعة اللبنانيّة الأميركية وجامعة هايكازيان تقيم بين ربوع المنطقة الغربية وتستقطب معها نخبة من الكفاءات الأكاديمية المسيحية الرفيعة التي لا تزال مقيمة فيها أساتذةً وأطبّاء. الأمثلة كثيرة على الانحسار الديموغرافي بعضها أصبح من التاريخ كما هو التحوّل الشهير في ضاحية بيروت الجنوبية في الخمسينات والستينات والذي أجهزت الحرب على بقايا تنوّعه.

المدن الثلاث التي كانت هي كل ما حصل عليه الكيان اللبناني من مدن سوريا التاريخية الكبرى، وهي طرابلس وصيدا و صور، هي أكبر مدن ما قبل الاسلام على الساحل السوري مضافاً عليها طبعاً مدينة جبيل.

من المدهش أن كل المدن والمناطق وحتى بعض القرى التي شهدت نزوح مسيحيّيها قبل حرب 1975 وبعدها في مسار غرق ديموغرافي سلمي بين المسلمين أو في مسار تهجيري عسكري خلال هذه الحرب (وهو في الحرب متبادَل في الواقع وقام به “الطرفان”) … من المدهش أن معظم هذه الأماكن التي أصبحت مسلمة أو ذات أكثرية مسلمة شبه صافية تمسّكت بمدارس التعليم المسيحيّة عدا بعض الحالات الحادة في الدامور والجبل والتي عاد جزء مهم منها لاحقاً وبترحاب الاعتراف لدى السنّة والشيعة والدروز بعراقة مستوى التعليم في تلك المدارس. وكما قلت في الحلقة الأولى حتى في المدارس الإرساليّة العلمانيّة حيث لـ”العلمانيّة” التعليميّة “كود” مسيحي!!

خسرنا الحي اليهودي في كل مدينة عربية ومسلمة كبرى من المغرب الى المشرق في أقل من ستة عقود بعد وبسبب تأسيس إسرائيل. بوجود القاهرة والاسكندرية والديموغرافيا القبطيّة فإن “الحي المسيحي” مهدَّدٌ فقط في مدن الشام والعراق رغم كثافة الخطر الأصولي في وادي النيل العربي. هذا الحي المسيحي تلاشى في صيدا وصور وربما قريباً في طرابلس كليا.

قرأتُ مؤخّرا لشخصية محترمة من محرّكي أفكار 14 آذار ما معناه أن المشكلة الأخطر الآن على لبنان هي الصدام السنّي الشيعي الذي يجب وقفه حفاظاً على لبنان. هذا، بصراحة، تطوّرٌ بل تغييرٌ مهمٌ في تفكير النخبة المسيحية السياسية في 14 آذار أو بعضِها الذي كان يعطي الانطباع طويلاً، منذ عام 2004، على أنه يراهن ضمنا أو حتى علنا  أحياناً على أن الصراع السني الشيعي يخدم موقع المسيحيين. لقد بيّنت تجربة الأعوام العشرة المنصرمة في كل المنطقة أن هذا الصراع المذهبي المسلم صار مدمِّرا على المسيحيين قبل غيرهم وفي كل المنطقة واليوم في لبنان نفسه حيث تتواجد ما أسمّيه آخر “كتلة سياسية” كبرى للمسيحيّين العرب والتي باتت تحمل اليوم مهمّاتٍ قيادية رئيسية في الدفاع عن الوجود المسيحي العربي والمشرقي أو بقاياه بالتحالف مع النخب المسلمة العلمانيّة والليبراليّة والمحافظة المعتدلة.

النكبة هائلة وقد بدأنا نعتاد على فكرةٍ عن التنوّعِ لا وجود فيها للمكوِّن اليهودي. فهل الجيل المقبل في بعض بلداننا كالعراق وغيره سيتحدّث عن ً”تنوّعٍ” ما يظنّه تنوعاً من دون المسيحيّين مثلما نظن حالياً أن التنوّع متوفّر من دون الحي اليهودي؟

عدا مهمّات وقف هذا التدهور حيث لا يزال ممكنا فإن مراجعةً عميقة تبدو أكثر من ضرورية لسلوك ومفاهيم النخب المسلمة المعتدلة أو التي تظن نفسها معتدلة واليساريّة العلمانية التي تظن نفسها علمانية بينما لم تترك “باباً” أصوليّاً لم تفتحه أمام الأصوليّين. ما الفارق، كما ثبت، بين أفكار التكفير “الوطنية” في الحرب الأهلية اللبنانية وبين أفكار التكفير الدينية في الحرب الأهليّة السورية؟ هذه بعض الأسئلة الصعبة التي تطال تجربة جيلين في الحياة العامة العربيّة وينبغي أن تعيد مراجعة مبرّرات تشكّلِ المقاومة المسيحية في لبنان في السبعينات لا لتبرير أخطائها الكبيرة ولكن لفهم  خوفها الوجودي الحقيقي وديناميّاتها وبالتالي مشروعيّاتها الدفاعية العميقة التي لم نعْطها بعد التفهم والفهم الضروريْن.

لا بدّ هنا من ملاحظة لبنانية ربما عدنا إليها بشكل مفصّل لاحقاً في مسار مراجعة تجاربنا. وهي أن هذا المقال مهجوس بما يمكن أن أسمّيه “التراجع السلمي” للوجود المسيحي في البيئتين السنّية والشيعيّة وهو ما ينتج عن عوامل الضغط الاجتماعي والثقافي لاسيما في زمن السلم بينما تجارب التهجير المتبادَلة في الزمن الحربي أتت من سياق سياسي أكثر تعقيدا.

في الحقيقة كل تاريخ الشرق الأوسط الحديث منذ الحرب العالمية الأولى يحتاج في جملة مراجعاته إلى مراجعة مسار الانقراض أو التدهور الديموغرافي المسيحي على أساس تأريخ يتخطّى الحواجز الوطنية المستحدثة. ولأكون أكثر وضوحا فقد بتّ أظن أنه لا يمكن فصل تاريخ مسيحيي سوريا والعراق ولبنان في المائة عام الأخيرة عن ما حدث مع الأرمن واليونان في الأناضول والقوقاز باعتبارها سلسلة معقّدة من الصدامات التي وُرِّط فيها المسيحيّون أو ورّطوا أنفسهم فيها. والمثال الساطع هنا ونحن نقترب من الذكرى المئويّة الأولى للقضية الأرمنية أخطاء التوريط الروسي للأرمن في القوقاز التي سمحت للمجموعة العسكرية القومية في اسطنبول عام 1915 بتنفيذ مخطّط استئصال الأرمن من داخل الامبراطورية المتداعية. كذلك دور التطرف القومي اليوناني في فتح الطريق أمام تصفية شبه شاملة لـ”الروم” من الأناضول أو بالمقابل الخطر الوجودي الفعلي الذي حرّكه النفوذ الفلسطيني المسلّح على الأرض اللبنانية وتضامنُ المسلمين معه في توليد التطرف المسيحي الذي بلغ حدا انتحاريا في بعض الأحيان.

لا تتفكًّك حدود سايكس بيكو دون تفكيك “التواريخ” والأفكار المتولّدة عنه حتى داخل البلد الواحد. ولن أنجرّ للقول: التفكيك التوحيدي على طريقة المقولة-المسخرة التي أطلقها “زعيم” ميليشياوي مسلم  بعد 1975 – 1976 عن “التقسيم التوحيدي