بعد أخذ وردّ رافق جولة وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا في المنطقة، فقد وصلت اخيراً الى لبنان مباشرة من تل ابيب، في تعديل بسيط وجوهري في آن طاول برنامجها. فقد كان مقرّراً ان تبدأ منها قبل ان تدخل واشنطن وتل أبيب على الخط لتستهلها منها، لتحميلها رسالة عاجلة الى اللبنانيين تتصل بالوضع في الجنوب. وعليه ما الذي تغيّر؟ وهل انّها حملت رسالتها الاخيرة ام انّ هناك ما يليها؟
تجمع أوساط ديبلوماسية وسياسية على قراءة المشهد الدولي بقليل من الآمال إن بُنيت على تحقيق خطوات سريعة ومتقدّمة يمكن ان تغيّر في واقع الحال الذي عكسه العدوان الاسرائيلي على غزة وما يجري على مستوى «جبهة المساندة» في جنوب لبنان، مع انتفاء الحديث عن أي جبهات أخرى، كان بعض من خطّط لفكرة «وحدة الساحات» يرغب في فتحها. فالمواجهة الأخيرة التي شهدها القطاع قبل أشهر قليلة بين اسرائيل وحركة «الجهاد الاسلامي» عبّرت ما فيه الكفاية عن عدم التوصل الى التكامل المطلوب بين هذه الساحات.
ولما بدأت عملية «طوفان الاقصى» بما عكسته من مفاجأة لم تكن محسوبة لدى اسرائيل وأي من الاطراف الاقليميين والدوليين قبل حلفاء الحركة في المنطقة، ولا سيما منهم اطراف «وحدة الساحات»، كان يمكن ان تكون ردّة الفعل المتوقعة كما في تلك التي سبقتها مع «الجهاد الاسلامي»، لولا إعلان «حزب الله» صباح اليوم التالي لانطلاقتها، فتح جبهة الجنوب على انّها «الجبهة المساندة» لـ «لجبهة الفلسطينية الداخلية» في مواجهة عملية «السيوف الحديدية» التي اطلقتها اسرائيل وحلفاؤها الدوليون، الذين محضّوها الدعم الأعمى منذ اللحظات الاولى على وقع التوصيف الذي أُعطي لعملية الطوفان قبل ان تتضح الكثير من الجوانب الغامضة منها.
لم تكن هذه المقدمة للتذكير بمحطة 7 تشرين الاول التي تحولت «قميص عثمان» لتبرير ردّات الفعل الدولية، والتي تجلّت بالدعم الأعمى لإسرائيل بلا أي شرط مسبق من الشروط التي تقيّد الجهة المستفيدة من أي دعم، سواءً كان على شكل هبة او مقابل التكلفة. وهي معادلة تعطي تفسيراً للدعم الاميركي والبريطاني والالماني والفرنسي غير المحدود لاسرائيل، قبل ان تتبدّل بعض المواقف نتيجة الاستخدام المفرط للقوة وحجم المجازر التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي بالمدنيين العزّل والقطاعات الطبية والاستشفائية، وبحق علم الأمم المتحدة الذي يظلّل مراكز إيواء اللاجئين والنازحين، والتي لا تتناسب واي عملية تعرّضت لها من قبل مهما كانت كبيرة.
وعليه، فإنّ قراءة الموقف الفرنسي مما يجري في غزة وجنوب لبنان، تفرض على اي مبادرة من هذا النوع، أن تُقاس بمعايير مختلفة عن تجارب سابقة في ظل الرعاية الدولية للحرب والمساعي المبذولة لوقفها والخروج منها بالحلول السياسية الممكنة، لوقف حمامات الدم التي تجري شلالاتها فوق اراضي غزة. فلا «طوفان الاقصى» كانت عملية تقليدية وعادية، ولا الردّ عليها كان تقليدياً وعادياً ايضا. وباعتراف المراجع العسكرية والديبلوماسية الدولية، فقد تجاوزت الحكومة الاسرائيلية في عمليتها كل الخطوط الحمر التي وضعها العالم الديموقراطي الحرّ منذ ان أقرّ بضرورة الالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية التي ترعى الحروب، وما قالت به من واجبات المعتدي على المعتدى عليه، وخصوصاً بعد إدانتهم لكل ما رافق الحرب الروسية على اوكرانيا من على كل المنابر الدولية، وصولاً الى فرض مجموعة من العقوبات الاميركية والدولية غير المسبوقة على موسكو، فيما تمارس العكس مع الحرب على غزة. علماً انّ كل ما قامت به الجيوش الروسية في أوكرانيا لا تُقاس في شكلها ومضمونها والنتائج التي ترتبت عليها، بعد عام وسبعة أشهر على بدئها وفي المرحلة التي سبقت الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة ومناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وبالعودة الى المهمّة الحالية التي تقوم بها كولونا، فلا بدّ من التأكّد من أنّها ليست وحيدة في تحركها. وانّ بعضاً من دوافعها بات محصوراً باهتمامات بلادها السابقة بالملف اللبناني قبل اندلاع الحرب في الجنوب، وخصوصاً انّه سبق للرئيس الفرنسي ان محّض اسرائيل كل اشكال الدعم منذ اللحظة الاولى للحرب، قبل ان يستثني في مساعيه الساحة اللبنانية على خلفية معرفته بالخصوصية التي تتميز بها الأزمة اللبنانية وما بذلته باريس من جهود لترتيب البيت اللبناني. وإن عجزت عن القيام بأي مسعى قامت به حتى الأمس القريب إن على مستوى انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية، ودفع اللبنانيين الى خوض برامج الاصلاحات الادارية والمالية التي اقترحتها غداة الأزمة النقدية والمالية، وجريمة تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 . فتهاوى مسلسل مبادراتها واحدة بعد اخرى، سواء تلك التي قام بها ماكرون، او تلك التي انتدب لها من يمثله شخصياً بعد تعثر مهمّة «خلية الأزمة» التي كان قد انشأها لمواكبة الوضع في لبنان.
وعليه، فقد تبادلت المراجع الديبلوماسية مجموعة من المعطيات التي تواكب مهمّة كولونا تتلخّص بالآتي:
– ليس واقعياً القول انّ كولونا تحمل مبادرة متكاملة، فحتى لحظة وصولها الى بيروت لم يكن متوافراً سوى القول انّها في مهمّة نقل الرسائل. وهي مهمّة يقوم بها الاميركيون ايضاً كما بقية الأطراف المؤثرة في الحرب الدائرة في غزة.
– لا وجود لأي مبادرة تنهي حرب غزة لينعكس اي اتفاق فيها لوقف النار في دقائق قليلة على الوضع في الجنوب. فتجربة «الهدن الإنسانية» كانت واضحة وستتكرّر إن تجدد التفاهم حولها او في مثيلات لها.
– لا يبدو انّ تقديم زيارتها الى تل ابيب قبل بيروت سيحمّلها رسائل إضافية، فقد سبقت التصريحات الاسرائيلية موعد وصولها وإمكان نقلها اي رسالة جديدة وخاصة بات مستحيلاً.
– لا يبدو انّ اسرائيل مهيأة للتوصل الى أي تفاهم جديد، فالأزمة التي تعيشها تل أبيب قد تدفع رئيس حكومتها ووزراء الحرب الى مزيد من التصعيد لتجاوز ما يمكن تجنّبه من الأفخاخ الداخلية.
– ليس في استطاعة أي من المسؤولين اللبنانيين تقديم أي تعهّد للديبلوماسية الفرنسية ولا الى أي طرف وسيط آخر في شأن تطبيق القرار 1701 المطلوب منهم، في ظل الموقف المعلن عنه من قِبل «حزب الله» و»حماس» بأنّهما ليسا في وارد التفاهم على أي خطوات سياسية او ديبلوماسية في الجنوب والقطاع، بما فيها البحث في عمليات تبادل الأسرى، قبل التوافق على وقف للنار وترتيبات عسكرية عاجلة.
وقياساً على الشروط المستعصية اللبنانية والفلسطينية كما الاسرائيلية، فقد تتحول زيارة كولونا محطة في سياق حراك لن ينتهي قريباً. وان حملت اي رسائل فليس ضرورياً ان تكون الاخيرة على هذا المستوى لهذه السنة، بعد إلغاء زيارة ماكرون للبنان. وطالما انّ اعادة الوضع الى ما كان عليه قبل 7 تشرين الاول غير ممكن إن لم يكن مستحيلاً. فما علينا سوى انتظار جولات ومبادرات اضافية قد لا يكون لها أي حدود. فالآفاق مفتوحة على شتى المفاجآت والى أجل غير مسمّى.