الصراع على بيروت ــ لا على دمشق ــ يقف خلف انفجار مجمع مطارنة الروم كاثوليك. فمطران بيروت يخشى من انتخاب بديل له، وإحالته على التقاعد بحكم تجاوزه السن القانونيّة، أكثر مما يخشى البطريرك لحام من معارضيه، بحكم عجزهم عن زحزحته عن كرسيّ دمشق، ما لم يقدِّم بنفسه استقالته
من لا يعرفون حقيقة ما يدور في كنيسة الروم الكاثوليك يعتقدون أنه صراع بين مطارنة إصلاحيين وبطريرك فاسد أو بين مطارنة 14 آذار والبطريرك المتفلت بدعمه للنظام السوريّ من كل الضوابط؛ إلا أن الأمر في حقيقته ليس كذلك أبداً. فالمرشح الأقوى بين المطارنة لخلافة البطريرك يقف على يمين لحام في الملفات السياسية، فيما المآخذ على المطارنة المناوئين للحام توازي المآخذ عليه شخصياً.
أما خروج الأزمة المستمرة منذ سنوات إلى العلن، فسببه واحد: الصراع على بيروت. فحجم مطرانية بيروت للروم الكاثوليك يكاد يوازي حجم مطرانيتي بيروت وجبل لبنان للروم الأرثوذكس وأربع أو خمس مطرانيات مارونية، وبحكم القانون الكنسي يخضع الكرسيّ البطريركيّ في منطقة الربوة في المتن الشمالي إدارياً لأبرشية بيروت.
عشرات الكهنة والرهبان تركوا أبرشياتهم ورهبانياتهم احتجاجاً على الفساد
بالتالي، إن سلطة مطران بيروت تفوق من الناحية الرعوية سلطة البطريرك. ولا بدّ هنا من شرح إضافي بأن كاهن رعية الربوة حيث مقر البطريركية يتبع لمطران بيروت إدارياً وليس للبطريرك. وعليه فإن مطرانية بيروت هي اللؤلؤة الثمينة، ويصدف أن مطرانها كيرلس بسترس تجاوز سن التقاعد ويفترض بمجمع المطارنة في حال انعقاده أن ينتخب خلفاً له. والأمر هنا لا علاقة له بالسياسة أو محاربة الفساد أو غيره؛ ضمن طائفة الروم الكاثوليك هناك عدة رهبانيات أبرزها الرهبانية الباسيلية المخلصية التي تأسست عام 1683 والرهبانية الباسيلية الشويرية (تأسست عام 1710) والرهبانية الباسيلية الحلبية (تأسست عام 1710 أيضاً) والجمعية البولسية التي تأسست عام 1903. وتنافس الرهبانيات بما يتضمنه من تحالفات للفوز بأبرشية بيروت يتجاوز كل الحسابات التي تتحدث عنها وسائل الإعلام. فخشية بسترس من انتخاب غيره مطراناً لبيروت وإحالته حكماً على التقاعد دفعته إلى استنفار علاقاته واللعب على أوتار الرهبانيات المختلفة لتطيير نصاب المجمع وضمان استمراره في مهماته. وفي المقابل تضامن مع البطريرك، تبعاً لانتمائهم المشترك إلى نفس الرهبانية، ثلاثة مطارنة من أشد مطالبيه بالتدقيق المالي والمحاسبة.
أبرشية بيروت التي أخرجت أزمة الروم كاثوليك إلى العلن تعتبر وأبرشية حلب مصدر التشريع الكنسي في هذه الطائفة. وبحكم مكانة المطرانية اشتد دائماً الصراع بين الرهبانيّات والإكليروس الكاثوليك لتبوّء كرسيّها. وفي عهد البطريرك السابق مكسيموس حكيم، جرى السير باقتراح تقسيمها إلى أبرشيتين، إلا أن مطران بيروت يومها حبيب باشا وقف مع كهنة أبرشيته في وجه المشروع لتطوى صفحته، حتى أعاد فتحها أحد كهنة بيروت المقرّبين من البطريرك لحّام الذي تبنى الطرح في أول سينودس عقد غداة انتخابه بطريركاً عام ألفين. وفي ظل موافقة مطران بيروت يومها يوسف كلّاس المفاجئة، بدأ إنفاق المال على الدراسات القانونية وإحصاء العقارات الوقفية والواقع السكني وحسابات الأبرشيات، وانقسم كهنة الأبرشيّة بين معارض للقسمة وموالٍ لها، علماً أن العدد الأعظم من الروم الكاثوليك في أبرشية بيروت موجودون في المتن وكسروان وبعبدا. وبعد خمس سنوات من المصاريف والانقسامات، بات واضحاً أن تقسيم الأبرشية سيكسر ظهر أكبر أبرشيّة للروم الكاثوليك وأعرقها وأغناها. وتعاظم الخلاف بشأن الأبرشية في ظل سعي بعض كهنة المطرانية نفسها إلى خلافة مطرانهم، كذلك فإن الرهبنة الشويرية وضعت عينها عليها، والجمعية البولسية أيضاً. إلا أن البطريرك لحام، وهو في الأساس راهب مخلصي، كان يخطط لتحويل أبرشية بيروت إلى كرسيّ للرهبانيّة المخلصيّة. وأمام تعاظم الخلاف، جدّد ولاية المطران كلاس مرتين، قبل أن يقترح نقل آخر لاهوتيّي الطائفة المطران كيرلس بسترس راعي أبرشيّة الولايات المتحدة إلى بيروت بعدما بلغت الخلافات داخل الأبرشية الأميركية ذروتها.
وبسترس كما هو معروف كان قد أُبعِد إلى الولايات المتحدة بعد فضائح مدوية تتعلق ببيع أراضي أبرشية بعلبك حيث كان مطراناً. وقد وافق المطرانان كلاس وغريغوار حداد على بسترس باعتباره قريباً من سنّ التقاعد ولا يملك أية حيثية بيروتية تمكّنه من تحويل الأبرشية إلى مكتب عقاريّ آخر، على أمل تحضير كاهن بيروتي بهدوء للحلول محله. وكان يفترض بالسينودس السابق أن ينتخب الأب جوزف جبارة مطراناً جديداً لبيروت باعتباره أحد أفضل الكهنة البيروتيين، إلا أن بسترس لعب لعبة ذكية أبعد بموجبها جبارة عبر انتخابه أسقفاً على البرازيل. علماً أن التدقيق عن قرب بمشهد هذه الطائفة يبين ما يشبه الإفراغ الكامل من الداخل. فلا تقتصر المشكلة على عدم وجود بديل للبطريرك لحام أفضل بكثير منه، إنما لا يوجد أيضاً وأيضاً بديل للمطران بسترس أفضل بكثير منه. وقد خلصت أزمة السينودوس الأخير إلى نتيجة واحدة: لا يعقد السينودوس فلا تطرح على طاولة البحث استقالة لحام ولا استقالة بسترس. والمشكلة بوجهيها يفترض أن تذكر من يعنيهم الأمر بترك عشرات الكهنة والرهبان أبرشياتهم ورهبانياتهم في خلال السنوات القليلة الماضية ويخلعوا الياقة الكهنوتية احتجاجاً على فساد مسؤولين عنهم وديكتاتوريتهم واستحالة محاسبتهم.