الحديث عن زعامة الطائفة الكاثوليكية بدأ عملياً مع وفاة النائب السابق الياس سكاف، الذي كان يُمسك بقرارها. طائفة «الملكيين الكاثوليكيين» تُعدّ من الطوائف التي تمكّن سياسيوها من تخطي «حدودها» وصولا الى فرض قرارهم على المستوى الوطني العام. عوامل عدة ساهمت في تراجع هذا الدور مع ما رافقه من فقدان مواقع أساسية في الدولة اللبنانية، الى حد بات التنافس فيه على «زعامتها» يُعدّ من أجل الوجاهة لا غير
حرمت الحرب الأهلية، طائفة الروم الكاثوليك من القوة التي تمتّعت بها تاريخياً في لبنان، وكرّست سنوات ما بعد اتفاق الطائف انحسار مواقع الطائفة في النظام اللبناني ونفوذها الاقتصادي والسياسي. وفيما ثبّت الطائف توزيع الحصص الطائفية في وظائف الفئات الأولى والوزارات، انتزع الاتفاق وزارات الدفاع الوطني والخارجية والمغتربين ورئاسة جهاز الأمن العام وقيادة الدرك والأمانة العامة لوزارة الخارجية ورئاسة الجامعة اللبنانية من حصّة الكاثوليك، لتخرج الطائفة من «المولد بلا حمص»، ولتنحصر حصّتها في قيادة المديرية العامة لأمن الدولة، التي لا تؤدي فعلياً أي دور أمني أساسي.
إلّا أن هذا الانحسار، لم يمنع استمرار شخصيات الطائفة بالتنافس على الزعامة، التي استطاع ابن زحلة النائب الراحل إيلي سكاف نجل النائب الراحل جوزف سكاف احتكارها في السنوات الماضية.
ارتبطت الزعامة الكاثوليكية بآل سكاف مع جوزف منذ الخمسينيات، لعدّة اعتبارات أبرزها انطلاقهم من منطقة زحلة وقراها، التي تضم العدد الأكبر من أبناء الطائفة في لبنان. ولكن في المقابل، نمت في بيروت زعامة أخرى مثلّها النائب الراحل هنري فرعون قريب الوزير الحالي ميشال فرعون، الذي لعبت عائلته البيروتية أدواراً أساسية في أربعينات وخمسينات القرن الماضي في رئاسة مرفأ بيروت وميدان سباق الخيل، وتأسيس أول مصرف خاص في لبنان (بنك فرعون وشيحا).
بعد وفاة جوزف سكاف، وتسلّم ابنه الياس «مقاليد الزعامة»، بدأ الحديث عن أنّ سكاف هو زعيم زحلة لا زعيم «الكاثوليك». يقول صاحب مجلّة «الروابي» الزحلاوية طوني زرزور، الذي كان عضواً في الماكينة الانتخابية «السكافية»، إن «سكاف سلّم منصب نائب رئيس مجلس الطائفة لميشال فرعون بدل أن يتزعم هو، وفي طاولة الحوار الوطني الأخيرة، لم يقبل أن يُشارك كاثوليكي آخر على الطاولة مع فرعون، وقبِل حضور شخص يجلس خلف نائب بيروت هو طوني عطالله الذي زكته ميريام سكاف».
الطرف الثاني في الصراع الكاثوليكي الداخلي، مثله آل فتوش، «اتفاق الطرفين كان كفيلا بحسم المعركة، لذلك عمل تيار المستقبل على التفرقة بينهما».
من جهته، يُلاحظ النائب السابق لرئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي أن صراع آل سكاف على زعامة الطائفة كان دائماً مع «حلفائهم» السابقين: «والد النائب إيلي ماروني عمل سائقاً لدى آل سكاف وسميّ شقيقه المرحوم نصري تيمناً بمعركة الـ1964 التي انتصر فيها جوزف سكاف. والد النائب السابق سليم عون كان أحد مفاتيح العائلة الانتخابية. أما عائلة فتوش، فكانت مفتاحاً انتخابياً في حارة مار مخايل ــ مار جرجس في زحلة. العائلة الوحيدة التي لم يكن لها علاقة بسكاف هي عائلة بو خاطر، التي انهزمت أمام جوزف في انتخابات الـ1972».
كانت الطائفة الكاثوليكية من الطوائف الأساسية في البلد التي تُمسك بجزء من القرار السياسي، فكانوا بيضة القبان. تراجعهم بدأ خلال الحرب الاهلية بعدما نأوا بأنفسهم عن التحارب الداخلي، «فقدت عائلات سكاف، فرعون وسالم (في الجنوب) قوتها في مناطق نفوذها. واقتصادياً فقد كبار الطائفة العديد من أعمالهم، اضافة الى هجرة أبنائهم»، بحسب النائب البيروتي ميشال فرعون. غابت الزعامات الكاثوليكية التي فشلت في الحفاظ على ثقلها السياسي بعدما كانت قادرة على السيطرة على قرار الطوائف الأخرى.
يرى زرزور أن «الزعامة الكاثوليكية اليوم مفقودة. بالأساس هي تتألف من السياسة، الشعب، ومطرانية سيدة النجاة»، التي تؤدي اليوم الدور الأبرز في الطائفة بسبب ضعف موقع بطريركية الكاثوليك. في الشقين الأولين، «هناك ضياع. في عهدَي جوزف وايلي سكاف كان منزل العائلة مفتوحا أمام الناس. قبل 4 أو 5 سنوات، تبدل هذا الأمر. ميريام وايلي حاربا آل فتوش، ما ساهم في تدمير الزعامة الكاثوليكية»، إلا أن آل فتوش لم يعرفوا كيفية الاستفادة من المعركة، وتقول مصادر سياسية زحلية إن «حضورهم كان أقوى في البقاع الأوسط قبل موت سكاف، اختفاؤهم يوم الدفن ارتدّ سلبا عليهم». هذا التراجع في السياسة، قابله فتح المطرانية أمام العمل السياسي، فهي منذ أكثر من سنة ونصف سنة فرضت نفسها لاعبا أساسيا في زحلة يوم طلبت الاحزاب والمرجعيات السياسية في المدينة أن تجتمع دوريا في المطرانية. يصف زرزور سيدة النجاة بأنها «المتقدم بين متساوين. فهي المبادرة للجمع بين كافة أطراف المجتمع».
هناك لاعب آخر، يحاول اعادة فرض نفسه رقما صعبا داخل طائفته هو الوزير فرعون. معلومات عدّة حصلت عليها «الأخبار» تقاطعت على الدور الجديد الذي يحاول فرعون أداءه في زحلة، «فلا أحد يريد زعامة قوية في زحلة. مثلا تبادل الاتهامات بين ميريام سكاف والمطران عصام درويش هو قرار مركزي بأدوات محلية». صراع الرجلين برز على نحو أساسي «حين سأل درويش والوزير السابق سليم جريصاتي عن ضعف التمثيل الكاثوليكي في طاولة الحوار، ما عدّه فرعون تشكيكاً في زعامته. من هنا يُفهم تسريب صورة اللقاء في السفارة السورية بحضور السفير علي عبد الكريم علي ورعاية درويش وحضور عدد من السياسيين بعد وفاة سكاف». يطمح فرعون الى التوسع أكثر صوب زحلة «ويساعده على ذلك زوج ابنته الزحلاوي عبدالله رزق ووالدة الاخير ماغدا بريدي». بالنسبة الى المصادر، «لا يخفى على أحد أن فرعون يريد زعامة الكاثوليك. لديه القدرة المالية ولكنه لا يستطيع أن ينطلق من منطقة لا توجد فيها أغلبية كاثوليكية. الزعامة ليست فقط نيابة». أما فرعون، فيجلس في منزله في الأشرفية، مشيراً إلى أن «دورنا السياسي أبعد من حدود الطائفة». يرفع في الصالون صورته ممتطيا جوادا عربيا يُمسك برسنه رجل يلف رقبته بكوفية. يبدو كأنّ كل ما يمكن فرعون القيام به، هو التعبير عن الأسف على ضعف الدور الذي «تؤديه الطائفة» حالياً. في زمن صراع المحاور الدولية والإقليمية والطائفية في لبنان، تظهر المعركة على الزعامة الكاثوليكية شأناً ينتمي إلى زمن مضى، ولا يبدو أنه سيعود.
«كلّوا بيردّ» الحاج شاهين
وصل الكاثوليك إلى لبنان من المناطق السورية، واستقروا بداية في منطقة رأس بعلبك في البقاع. خلافهم مع الحرافشة حول الأرض، أجبرهم على الانتقال الى الفرزل وزحلة ومن هناك توجهوا صوب صيدا وجزين وجبل لبنان وبيروت، «تمركزوا بشكل أساسي في المناطق التي لا يسكنها سنّة وروم أورثوذكس»، كما يقول الوزير ميشال فرعون.
أول منزل «كاثوليكي» في زحلة شيدته عام 1760 عائلة الحاج شاهين. وهي واحدة من العائلات السبع الشهيرة في عاصمة البقاع: بو خاطر، بريدي، جحى، غرّة، مسلّم ومعلوف، أما سكاف، فهم فرع من عائلة الحاج شاهين. صنعت عائلات زحلة تاريخ المدينة السياسي بالقوتين الاقتصادية والعسكرية، «لم يكن أي قرار في زحلة يُتخذ من دون اتفاق أبناء هذه العائلات. عاصمة البقاع كانت تخسر حين يتفرق هؤلاء»، يقول النائب الزحلي الحالي طوني بو خاطر.
أما في بيروت، فقد تمركزت عائلات فرعون (التي كان لها فروع في فلسطين ومصر والنمسا وايطاليا) وسوسة ويارد. بعد ذلك، برزت عائلات الصحناوي وأبو عضل ويازجي. نسجت العائلات «الكاثوليكية» علاقات مع الإرساليات الأجنبية التي وصلت إلى لبنان، أسس قسمٌ منهم الأعمال الخاصة «فعرفوا بالعائلات البرجوازية. ثقلهم الإقتصادي والثقافي كان أكبر من عددهم»، استناداً إلى أحد النواب «الكاثوليك» البيروتيين.
قبل أن يستحوذ آل سكاف على «زعامة الطائفة»، كانت المرجعية في زحلة لدى عائلة بو خاطر، «وعلى أنقاضها بنى الياس طعمة سكاف مجده»، على ذمة نائب رئيس مجلس النواب السابق ايلي الفرزلي. بو خاطر كانت عائلة مستقلة، وما زالت، إذ لا يعدّ النائب بو خاطر نفسه ممثلا للقوات اللبنانية في زحلة. كانت العائلة تمتلك العسكر والمال «ودورهم كان مركزيا في صناعة مجد زحلة العسكري»، ولكن أفل نجمهم لسببين، أولا تواجههم مع الانتداب الفرنسي، وثانيا تقاتلهم مع آل سكاف الذي استغله الفرنسيون من أجل رفع أسهم الياس طعمة. الأخير كان يعمل في البداية لدى عائلة سرسق. تكفل الفرنسيون بمدّه بالمال «من أجل شراء بلدة عمّيق وأراض أخرى في البقاع. وصل الى الحكم في زحلة عام 1926 وتمكن من فرض سيطرته من خلال قوته الاقتصادية ــــ العقارية، فمثّل في ما بعد العامود الفقري الأساسي للعديد من العائلات الزحلاوية الأخرى».
في حينه، كان آل سكاف الوحيدين الذين يملكون «امتياز» الأملاك العقارية، فبسطوا سلطتهم على كامل البقاع لا في زحلة فقط، وصولاً إلى بداية حرب سبعينات القرن الماضي. وبعد التطور الثقافي ــ الاجتماعي الذي أصاب البقاع «تحررت المحافظة مقابل تقلص النفوذ السياسي لسكاف إلى حدود زحلة. هذا الأمر أفسح المجال أمام بروز كيانات مذهبية، فأصبح لكل جماعة زعيم. وصار صراع الزعامة محصوراً داخل الطائفة الكاثوليكية، حيث المعلف صغير»، يقول الفرزلي.