من البديهي أن ترخي أحداث باريس بثقلها على العواصم الأوروبية كما العاصمة الأميركية. ومن المنطقي أيضاً أن تكون هذه العملية الإرهابية حاضرة في المنتديات واللقاءات الدولية وآخرها قمة الدول العشرين في تركيا.
المفارقة أنّ هذه الدول لم تهتم كثيراً للمتفجرات الإرهابية التي أصابت منطقة برج البراجنة اللبنانية. لكن بعد اعتداءات باريس أصبحت الصورة مختلفة انطلاقاً من وجود قرار «داعشي» بإيقاظ الخلايا النائمة في الخارج والمباشرة بتنفيذ اعتداءات إرهابية على نطاق واسع.
ومن البديهي الاعتقاد بأنّ قرار داعش إنما هو نتيجة شعور قيادة هذا التنظيم بأنّ وقت «الجدّ» قد حان وأنّ العواصم الكبرى اقتربت كثيراً من قرار ضرب هذا التنظيم الارهابي وتصفيته بعدما أشرف على الانتهاء من الدور الذي كان موكلاً اليه.
أوروبا كلها ستدخل في ورشة أمنية كبرى رغم وجود تخوّفات من أنْ لا يمنع ذلك حصول اعتداءات إرهابية جديدة في عواصم أخرى كما اعلن التنظيم الإرهابي. وتتركز الورشة الفرنسية على نقطتين اساسيتين.
1- الإمكانيات الضخمة التي أمّنت حصول هذه الاعتداءات ما يعني وجود خرق أمني واسع في اجهزة الامن الفرنسية. فالتخطيط كان دقيقاً وممتازاً وانتقاء الأهداف والتوقيت والأسلحة المستخدَمة، كلّ ذلك يعني وجود قيادة قامت بتنظيم كلّ ذلك وهي موجودة في اوروبا واستطاعت تنسيق ستّ هجمات في رقعة جغرافية ضيّقة، ودرست حساب هروب المجموعة التي هاجمت المطعم.
قيادة محترِفة نسّقت كلّ الهجمات وأمّنت الأحزمة الناسفة والرشاشات من خلال استقدامها من خارج فرنسا وعلى الارجح من شبكات إرهابية موجودة في دول قريبة من روسيا. ومَن يمتلك هذا التنظيم والقدرات يعني أنّ لديه الكثير والعديد من الشبكات الأخرى المستعِدّة لتنفيذ عمليات مماثلة في أماكن أخرى.
وهنا مكمن الخطورة. وتبدو أوساط ديبلوماسية اوروبية مذعورة من وجود مئات العناصر الخطرة والتي تسلّلت الى اوروبا والقادرة على تنفيذ عمليات إرهابية بدم بارد واحتراف وتصميم كما ظهر على منفّذي هجوم المسرح في باريس.
لكنّ النقاش في فرنسا هو حول الخرق الواسع في الأجهزة الأمنية الفرنسية التي تضمّ ما نسبته 10% من العناصر التي لها اصول غير فرنسية. وأثبتت حادثة مجلة «شارلي ايبدو» أنّ موظفة في هذا الجهاز من اصول عربية – افريقية هي مَن سهّلت حصول العملية.
2- ما يتعلق بالقوانين الموضوعة التي لا تتلاءم مع المرحلة الارهابية التي تمرّ بها اوروبا. ففي فرنسا ما يقارب الاربعة آلاف مشتبه بهم لا تسمح القوانين بالتعاطي معهم بالشكل المناسب. لذلك جرى إعلان حال الطوارئ ما يسمح بتجاوز القوانين. ما يعني أنّ فرنسا ومعها اوروبا ستباشران في إجراء ورشة إصلاحات ستغيّر حتماً وجه اوروبا الحالي.
وإذا ما جرت إضافة الاعتداء الارهابي في لبنان والتحقيقات التي رست على معلومات خطيرة، فإنه من الواضح أنّ قيادة داعش أعطت توجيهاتها لإشعال الساحات الخارجية بهدف تخفيف الضغط عنها وجعل العواصم الكبرى تتراجع عن المشروع الجاري تحضيره في الشرق الاوسط.
عليه، وفي ردّ على ذلك شكّل مؤتمر فيينا الأخير فرصة للاندفاع أكثر الى الأمام، وهو ما أدّى الى تفاهمات عدة حول الأزمة في سوريا.
وبخلاف المواقف المعلَنة، تقول أوساط ديبلوماسية اوروبية إنّ وزير الخارجية الايراني والذي يصفه زملاؤه الاوروبيون بالمتمرّس و»الحذق» بدا مزهوّاً بالموقع الجديد لبلاده بين أعضاء الأسرة الدولية. وفي المقابل بدت المسافة قصيرة بين وزيرَي خارجية السعودية وتركيا واللذين يشاركهما المحور نفسه وزير خارجية فرنسا.
إذاً، فإنّ التهديد الارهابي لداعش أعطى دفعاً كبيراً للوصول الى تسوية معقَّدة حول سوريا. صحيحٌ أنه جرى تجاوز العديد من النقاط الخلافية، لكن ما يزال هنالك الكثير منها ما يشكّل نقاطاً حساسة وشائكة كمثل تحديد الفصائل المعارضة والتركيبة الحكومية المقبلة والأهم الدول الإسلامية التي ستشارك في تولّي مسؤولية المناطق التي سيُجرى تحريرها من داعش من خلال قواها العسكرية.
وما من شك أنّ لبنان يتأثر مباشرة بهذا المناخ الإقليمي والدولي «الواعد». من هذه الزاوية يمكن تفسير المبادرة السياسية التي أطلقها أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله والتي تتضمّن الانتخابات الرئاسية وقانوناً جديداً للانتخابات، وهذا له معناه الكبير.
ومن هذه الزاوية ايضاً يمكن تفسير «التعليق» الإيجابي لرئيس تيار المستقبل الرئيس سعد الحريري إثر تفجير برج البراجنة. فالسيد حسن نصرالله وفي دعوته الحوارية تجاوز ضمناً الفيتو الذي كان يضعه على الرئيس الحريري.
ورئيس «المستقبل» في كلامه اعتبر أنْ لا شيء يبرّر حصول هذه الاعتداءات الإرهابية، واضعاً جانباً الشكوى من مشاركة حزب الله في القتال في سوريا كما كانت تتضمّن مواقفه إثر الاعتداءات السابقة.
مناخٌ جديد يظلّل لبنان ويمكن وصفه بأنه مناخ إيجابي يسمح بالتواصل والتفاوض بشكل جدّي، لكن قبل «الغرق» في التفاؤل لا بدّ من التحسّب من عاملَين اثنَين:
الاول: المناخ الاقليمي الايجابي وهو ما يزال بحاجة لخطوات كثيرة وتفاهمات واسعة تسمح بولوج النقاط اللبنانية العالقة والمعقّدة والصعبة لا بل الحساسة. وهو ما يعني أننا ما نزال في بداية الطريق.
والثاني: «داعش» و«النصرة» اللذان يحتفظان بوجود فاعل في لبنان من خلال الخلايا النائمة، سيحاولان توجيه الضربات الأمنية في محاولة لإجهاض هذا المناخ الايجابي ودفع الدول الاقليمية للتراجع والعودة الى الوراء. وقد يكون بعض القوى يسعى لتوجيه الضربات لتعديل الأحجام وتليين المواقف على طاولة المفاوضات العالمية.
وتشكل مخيّمات النازحين السوريين إضافة الى المخيّمات الفلسطينية عاملَ جذب لهذه المشاريع، وسط نوايا لوضع هذه الأماكن بمواجهة مسلَّحة مع حزب الله. وهو ما استبقه السيد حسن نصرالله بدعوة جمهوره والبيئة الشيعية بعدم الانجرار الى ردة فعل انفعالية والوقوع في فخّ التقاتل كون ذلك سيشكل عاملاً سلبياً ضدّ مصلحة حزب الله في زمن المفاوضات الصعبة.