في الجاموس والشويفات والليلكي
حتى ليل الأمس كانت الضاحية الجنوبية أسوأ كوابيس أهلها وكل من يتأمّلون حالها عن بعد. اليوم ومنذ ساعات الفجر الأولى صارت الضاحية حلم العودة المنسوج بأوهام النصر وكتاباً مفتوحاً لمن يتجرأ على تصفح شوارعها وأحيائها. بالآلاف يعودون إليها وسط زخات الرصاص ابتهاجاً.
منذ ساعات الفجر الأولى لم يهدأ صوت الرصاص، رشاشات وأكثر، لم يشملها اتفاق وقف النار وسيارات تملأ طرقات العودة. عند طريق صيدا القديمة بدءاً بغاليري سمعان يبدو الزمن وكأنه قد توقف وعاد بالمشهد شهرين إلى الوراء. فالشارع استعاد زحمته المعهودة، لكن سيارات اليوم لا تحمل أفراداً يهرعون إلى أعمالهم بل على متنها تكدّست عائلات تحمل في أحضانها بقايا النزوح في أكياس سوداء وفوق أسطحها منازل مختصرة. نسير مع العائدين نحو مفرق السانت تريز، حاجز الجيش لا يدقق في الوجوه، يوزع مناشير لكل عابر تحذّر من الذخائر غير المنفجرة. من خلف زجاج السيارات في هذا اليوم الماطر، عيون تبحث عن معالم تعرفها أو وجوه مألوفة. هنا، لا أضرار في المباني تذكر، تحت أحدها تجمع شبان في مقهى تساقط زجاجه. عند شارع الجاموس يتغيّر المشهد فهنا قلب الضاحية. كأن كل شيء اكتسى لوناً رمادياً أو ربما هذا ما أوحت به أكوام البنايات التي تكدّس ركامها عند أطراف الشوارع. عجقة الناس أقلّ، وجو مثقل بالحذر. أحدهم يرفع باب محله الحديدي بتأنٍ خشية ما يخبّئه له الداخل. قرب مبنيين متكوّمين عند ناصية أحد الشوارع، يقف شاب يافع على عتبة سيارته يرفع علم “حزب اللّه” وصورة السيد حسن ليلتقط رفيقه صورة له. هنا كانا يسكنان، سكرة العودة لم توقظ فيهما بعد فكرة بيت لم يعد موجوداً وحي تغيّرت معالمه. مجموعة من الصبايا ينكشن بأرجلهن الردم ضاحكات لعلهنّ يجدن كما قلن بقايا أثواب فرحن بها يوماً أو أدوات تجميل.
عند مفرق المريجة المشهد أكثر قسوة. بصعوبة يمكن عبور الشارع الواسع نزولاً إلى ساحة تتوسط أوتوستراد السيد هادي. مناصرو أمل يتبارون مع مناصري الحزب في من يرفع أعلاماً أكبر وأكثر. شبان يجولون الشوارع على دراجاتهم وأناشيد تصدح على خلفية صوت الرصاص الذي يستمرّ ملعلعاً. سيارات تغادر المنطقة أكثر من تلك التي تدخلها يحتمي ركابها خلف الأقنعة كما في أيام الجائحة. فالمريجة تبدو وكأنّ الموت لا يزال يسكنها. قرب مخفر الدرك ساتر ترابي كبير مجبول بالركام وحاجز يمنع الاقتراب: هنا استهدف هاشم صفي الدين والاقتراب لا يزال ممنوعاً. لا نتوغل كثيراً في المنطقة مع تصاعد أصوات الرصاص وتشعب الشوارع وكثرة الركام.
عند أطراف أوتوستراد السيد هادي في اتجاه الشويفات، يصبح وجود السيارات شبه معدوم. سيدة وحيدة تقف في أسفل مبنى مشلع تتأمل الشرفات وتستحضر ربما في بالها جلسات ساكنيها وتقول “أغادر بعد قليل الحي. إنه كأحياء الأشباح، لا ناس فيه، لا أدري متى يعودون”.
عند المدخل الغربي للجامعة اللبنانية، تخرج شاحنات للجيش اللبناني المتمركز فيها، وجودها يوحي بالثقة وسط الجو الكئيب. عند أطراف الجامعة تقوم أزقة الليلكي، تبدو على حالها رغم ما تعرضت له المنطقة من قصف، ضيقة مكتظة يتجمهر تحت مبانيها شبان “يؤرغلون” ويتحدثون كأنهم تركوها في الأمس. متاهة نخرج منها بصعوبة نحو طريق صيدا القديمة باتجاه العمروسية. زحمة خانقة وعلامات نصر تلوح من نوافذ السيارات، زمامير وفوضى وضحكات وبعض القبلات المرمية في الهواء من دراجة إلى أخرى. نلتف صعوداً نحو الحدث لتعذر الوصول أبعد من ذلك بسبب الزحمة الخانقة، فهذه الطريق هي البديلة نحو الجنوب أيضاً.
في الحدث يتغيّر المشهد. إنه لبنان كما نعرفه… وتلك، هناك، الضاحية كما يعرفها أهلها ويحبونها.