وضع إتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ في الساعة 4:00 فجراً من 27 نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم الإطار الدولي والقانوني لإقصاء طهران عن دور دأبت على القيام به نحو إسرائيل وواشنطن عبر الحدود الجنوبية، أو باتّجاه الداخل السوري والعراقي عبر الحدود الشرقية. هذا وقد أعطى الإتفاق المذكور من جهة أخرى الدولة اللبنانية فرصة مشروطة ومقيّدة إلى أقصى الحدود لاستعادة قرار السلم والحرب وبسط سيادتها على كامل أراضيها. موافقة الحكومة اللبنانية على الإتفاق المشار إليه كانت الخيار الوحيد المتاح لوقف الحرب فهي لم تمتلك ترف فرض الشروط تحت تأثير القتل والتدمير الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي على لبنان لأكثر من ستين يوماً، كما أنها لم تحظ بدور المشارك في المفاوضات التي أوكلت الى الرئيس نبيه بري حيث التزمت دور المراقب لأسباب وتراكمات يعلمها الجميع.
لقد اكتفى البيان الصادر عن الحكومة بتاريخ 11/10/2023 بتأكيد «موافقتها على الإتفاق المتعلق بإلتزام تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 تاريخ 11 آب 2006 بمندرجاته كافة، لا سيما ما يتعلق بتعزيز انتشار الجيش والقوى الأمنية كافة في منطقة جنوب الليطاني وتكليف الجيش بالتنفيذ». لم يُشر قرار الحكومة إلى أية تقييدات أو تعليمات تفرضها خصوصية المهمة ودقتها، كما لم يتضمن أية إجراءات رقابية أو معايير لاختبار نجاح المهمة أو فشلها، مما يؤكد أن الحكومة التي اضطلعت بدور المراقب أثناء التفاوض تحوّلت الى ساعي البريد المكلف بنقل اتّفاق وقف النار بحرفيته إلى قيادة الجيش بحضور وزير الدفاع.
كان يمكن للحكومة استناداً للمادة الأولى من المرسوم رقم 52 تاريخ 5/8/1967 أن تعلن حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية في منطقة الجنوب أو في جزء منها (من مقطع نهر الزهراني حتى الحدود الدولية) حيث تتوافر شروط «تعرض البلاد لخطر مداهم ناتج عن حرب خارجية أو ثورة مسلحة أو أعمال أو إضطرابات تهدد النظام العام والأمن أو عند وقوع أحداث تأخذ طابع الكارثة» كما ورد في المرسوم المذكور. هذا بالإضافة أن إعلان حالة الطوارئ يتيح للسلطة العسكرية (وفقاً للمادة 4) من المرسوم المشار إليه «اتّخاذ قرارات بتحديد أقاليم حيطة خاضعة لنظام خاص وفرض إجراءات تقيّد تجول الأشخاص والسيارات ضمنها». أليس هذا ما تفرضه أبسط مستويات المسؤولية لا سيما في منطقة كانت تشهد جولات قتال بين مواطنين وجيش معادٍ مما يعقّد إمكانية الفصل بين المقاتلين والسكان، ومما يقدم للعدو ما يشتهيه من القرائن لاستئناف العدوان.
ما حصل بعد الموافقة على الإتّفاق كان استثماراً مستهجناً في وجدان المواطنين التواقين للعودة الى ديارهم، استثماراً إفتقر الى أبسط معايير الإنسانية المسؤولة. أجل لقد دُفع المواطنون بل جرى تحفيزهم بطريقة غير مبرّرة وغير مسؤولة للذهاب إلى قراهم ودخول أماكن يتواجد فيها العدو الإسرائيلي وكأنما يُدفع بهم عمداً الى كنف الإحتلال دون الأخذ بعين الإعتبار أن أمن هؤلاء المواطنين يصبح حينها منوطاً بالعدو. لقد كان الغياب الحكومي واضحاً كذلك في عدم تكليف اللجنة الوطنية لتنسيق عمليات مواجهة الكوارث والأزمات ـــــ التي أدارت حركة النزوح وتدخلت بكفاءة عالية في الكارثة الصحية الناتجة عن تفجير أجهزة البايجرـــــــ أو تكليف من يلزم للإنتقال واستئناف المهام في الجنوب الذي يواجه مواطنوه مختلف أنواع الكوارث.
إنّ كلّ ما ذكر أعلاه لا علاقة له بمهام اللجنة الخماسية لمراقبة تنفيذ اتّفاق وقف إطلاق النار بل هو مسؤولية حكومية تستوجب الإرتقاء الى مستوى الحوكمة الرشيدة واعتماد الأطر والإجراءات المعروفة دولياً لتقديم الأمن الإجتماعي للمواطنين في الجنوب والبقاع والضاحية. لكن المخاطر الحقيقية تبقى في الضياع الحكومي حيال تكرار الخروقات الإسرائيلية في أكثر من منطقة منذ توقيع الإتّفاق. إن الإتّفاق الذي وافقت عليه الحكومة والتزم به حزب لله قد أقصى كل ما كان يسمّى بقوى الأمر الواقع التي كانت تحول دون قيام الدولة بمهامها حيث عادت هذه القوى وفي مقدّمها حزب لله الى كنف الدولة وأصبحت تحت مظلتها مما يلزم الدولة بحمايتها.
لا شك أن مهلة الستين يوماً المحددة في الإتّفاق لانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان ستدفع بالعدو الى اختلاق المبررات لتأجيل الإنسحاب وربما إفشاله. إنّ ما حصل بالأمس من إطلاق صواريخ نحو الأراضي المحتلة رداً على الإختراقات الإسرائيلية قد يكون بدايات لتحويل إتّفاق وقف إطلاق النار الى هجمات متكررة على العمق اللبناني على غرار ما يحصل في سوريا، وهذا ما يطرح أكثر من علامة استفهام حيال الإجراءات الواجب اتّخاذها من قبل الحكومة اللبنانية التي أكدت موافقتها على الترتيبات المرفقة بالإتفاق.
فهل تختار الحكومة مجدداً دفع بعض مجموعات حزب الله أو إفساح المجال لمن يمكن توظيفه إقليمياً لاستئناف إطلاق الصواريخ بالرغم مما يترتب على ذلك من نتائج كارثية، وهل يصبح إتّفاق وقف النار وسيلة لاستكمال العدوان على لبنان؟