Site icon IMLebanon

هدنة في سورية مجهولة الأهداف!

في اليوم الثالث من غزو العراق (آذار/ مارس 2003)، صدرت عن نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، ملاحظات استفزازية خلاصتها أن القيادة كانت عازمة على تصويب صواريخها باتجاه سورية.

ثم تبعه وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، بإطلاق تهديدات مماثلة تؤكد استعداد القوات البرية لغزو سورية بالسهولة ذاتها التي تمت فيها عملية إسقاط نظام صدام حسين.

ومع أن المغامرة التي ألمح إليها كلّ من تشيني ورامسفيلد لم تُنجَز، إلا أن أصداءها الخطرة تركت لدى النظام السوري هاجساً مقلقاً يصعب تجاهله. ولمحو هذا الهاجس الأمني، قرر الرئيس بشار الأسد، توريط القوات الأميركية في العراق بحرب داخلية تمنعها من التمدّد باتجاه بلاده. لذلك، أمر بإنشاء مكاتب خاصة في دمشق وحلب، يتم بواسطتها تدريب المتطوعين المحليين والعرب الذين جاؤوا من اليمن وتونس وليبيا ودول أخرى، بهدف الانتقال الى العراق لمقاومة الأميركيين الغزاة.

وقد اقتصر عمل تلك المكاتب، في حينه، على استقبال المتطوعين وتغيير أسمائهم، وتزوير هوياتهم، ثم إرسالهم الى بغداد والموصل والكاظمية، حيث يكون في انتظارهم عدد من الأنصار في طليعتهم أبو مصعب الزرقاوي.

بعد مرور ثلاث سنوات تقريباً، ظهرت أسماء جديدة في سورية تولّت عمليات التدريب والتثقيف الأيديولوجي، كان أبرزها «أبو القعقاع». وتدل سيرته على أنه كان شخصاً مغموراً، وغير معروف لدى المتدينين في مدينة حلب. لكنه برز كداعية عقب الاحتلال الأميركي للعراق، فكان يخطب في جامع العلاء بن الحضرمي في حي الصاخور. وقد تميزت خطبه بالدعوة الى الجهاد في العراق لدحر الغرباء وأنصارهم.

ولإثبات الأدلة الدامغة، أرسلت إحدى الدول العربية ثلاثة من أفراد تابعين لقسم الاستخبارات، بغرض استكشاف حقيقة الدور الذي تقوم به سورية.

وكان من الطبيعي أن يمروا بمختلف المراحل التي يمر بها المجاهدون في مركز الخدمات. وبعد أن تسللوا الى العراق بأوراق مزوّرة، والتحقوا بالتنظيمات المعدّة لمقاومة الأميركيين، عادوا أدراجهم الى بلادهم من موقع حدودي بعيد من المراقبة. ثم أبلغوا بالتفاصيل عن الدور المزدوج الذي يقوم به النظام السوري داخل العراق.

ولما عُمِّمَت أخبار هذه الحادثة على الصحف الأميركية، توقفت سورية لفترة طويلة عن لعب هذا الدور، خصوصاً بعد تجديد التهديدات الأميركية.

وتردّد في حينه، أن الأجهزة الأمنية السورية تولّت عملية تصفية المشرفين على تدريب المتطوعين، خوفاً من افتضاح هذا الأمر، وتعريض النظام للمساءلة والانتقام. وكان خطيب جامع الإمام محمد أغاسي، الملقب بأبي القعقاع، أول ضحايا التصفيات حيث اغتيل في حلب سنة 2007. ثم تكررت عمليات الاغتيال في دمشق وحلب، وتوقفت عن العمل كل الأجهزة التي تولّت تلك المهمة السرية.

لكن، الى أين لجأ أكثر من خمسة آلاف مقاتل توزعوا على المحافظات العراقية، وتواروا عن الأنظار؟

مع ظهور «داعش»، التحق الفريق السنّي منهم بهذا التنظيم، وراح يقاتل الدولة التي ساهمت في صنعه مع عدد كبير من ضباط صدام حسين، الذين فصلهم الحاكم العسكري الأميركي بول بريمر من الخدمة.

على كل حال، بعد انقضاء خمس سنوات على الحرب السورية المشتعلة ضد ما وصفه بشار الأسد بـ «مقاومة الإرهاب»، صدر بيان مشترك أميركي – روسي يدعو الى وقف النار بدءاً من يوم الجمعة، أي أمس.

وشملت الهدنة المطلوبة مختلف الجماعات الجهادية، باستثناء «تنظيم الدولة الإسلامية» و «جبهة النصرة». وقد استفاد «داعش» من الاتفاق الموقت لوقف إطلاق النار، حيث قامت عناصره بتفجيرات في منطقة السيدة زينب، جنوب دمشق، أودت بحياة 120 شخصاً.

في هذه المرحلة الحرجة، استغلّ الأسد انتصارات بوتين في حلب ليؤكد لإحدى وكالات الأنباء، إصراره على استرجاع كل الأراضي السورية من العصابات المسلّحة. وكان من اللافت، استقبال تصريح بشار الأسد بالاستهجان من جانب موسكو، التي أعلنت أن تفكير الأسد يتناقض وسياستنا الرسمية. كذلك، انتقدته الصحف الروسية، مدعية أن هذا النهج يعرقل تحويل المكاسب الحربية الى مكاسب سياسية، إضافة الى تسعير العلاقات مع الغرب والدول العربية. ويرى المحللون أن روسيا مستعدة لمساعدة الأسد في جبهات محدودة، مع الاحتفاظ لنفسها بقدرة السيطرة على كل الدولة السورية مع النظام أيضاً.

قبل سنة تقريباً، كان الأسد يعتمد على إيران من أجل تمرير مشروعه العسكري. لكن دخول روسيا على خطوط المعركة، منحها مكانة متفوقة على إيران، كونها قادرة على استخدام طيرانها الحربي، وجاهزة للتفاوض مع الولايات المتحدة حول مستقبل سورية.

يُجمع المراقبون على القول إن أزمة الشرق الأوسط قد خرجت عن المألوف لتصبح مشكلة إقليمية بكوابح دولية. وهذا يعني أن أبعادها السياسية قد تجاوزت قدرات الدول الكبرى، بسبب تشابك المصالح وتضارب الأهداف.

وتعتبر الأمم المتحدة أن تركيا هي الدولة الأكثر تضرراً بين القوى المتخاصمة. وقد رأى الرئيس رجب طيب أردوغان، في افتتاح ممثلية كردية لحزب «الاتحاد الديموقراطي» في موسكو، خطوة استفزاز تبعد التعاون بين الطرفين. وهو يعرف أن التحديات قائمة مع وجود المسلّحين الأكراد في منطقة سنجار. أي في المثلث الذي يصل بين حدود تركيا والعراق وسورية.

والطريف في الأمر، أن الإدارة الأميركية تعترف علناً بأن الكردستاني هو شخص إرهابي ينتمي الى حزب عبدالله أوجلان. لكن نظرتها الى هذا الشخص تختلف في حال انتمائه الى «وحدات الحماية الكردية». ويرى كثر، مثل رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، أن قصف أطراف مدينة «أعزاز» لم يكن أكثر من رسالة سياسية فهمها جيداً نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، أثناء زيارته تركيا. وكانت تلك الرسالة تضم محاذير واضحة، بينها الانسحاب الكردي من «أعزاز» ومن مطار «منغ». وعندما قصف الأتراك «تل رفعت» لمنع الأكراد من احتلاله، تدخلت القوات السورية وقصفت الأتراك بقسوة. وهذا دليل واضح على التنسيق والتعاون بين الأكراد والنظام السوري.

ومثل هذه العلاقة توطدت سابقاً بواسطة عبدالله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني. وقد عُرِف بتطرفه الماركسي الذي أثار حفيظة العسكريين الأتراك. ولما اشتدت حملات المطاردة ضد اوجلان، لجأ الى سورية حيث احتضنه الرئيس حافظ الأسد، وسمح لعناصره بالتدرب على القتال في منطقة البقاع اللبنانية.

ولما ازدادت نشاطات جماعته داخل اسطنبول وأنقرة سنة 1984، حذرت الحكومة التركية دمشق من عواقب دعم «حزب العمال الكردستاني».

وفي سنة 1998، حشدت تركيا قواتها على الحدود السورية، وهدّدت بالاجتياح ما لم يطرد حافظ الأسد أوجلان من سورية ولبنان.

عندها، طلبت دمشق من أوجلان مغادرة سورية. لكن نوافذ الرحيل سُدَّت في وجهه. لذلك هرب الى روسيا، ومنها الى إيطاليا، ومنها الى كينيا حيث لجأ الى السفارة اليونانية. لكنه أخرِجَ منها بواسطة الشرطة الكينية. وفي 16 شباط (فبراير) 1999، تم نقله الى تركيا حيث يقبع في جزيرة نائية بانتظار محاكمته، أو التفاوض على إطلاق سراحه.

المهم، أن هذا الحزب خرج من دائرة الضوء ليحل محله حزب آخر، لا يقل عنه تعاوناً مع النظام السوري. وقد أشار الى هذا التحول وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند، الذي أعلن في مجلس العموم عن انزعاج أوروبا حيال التنسيق القائم بين قوات كردية والقوات الروسية وقوات بشار الأسد.

وفي تصريح آخر يتعلق بهذا الشأن، أكدت مسؤولة الأمن الخارجي في الاتحاد الأوروبي أن هذه الدول تعارض حركات الانفصال التي يقوم بها الأكراد في تركيا وسورية والعراق. علماً أن الولايات المتحدة هي التي شجعت هذا المنحى عقب إسقاط نظام صدام حسين.

ويبدو أن تركيا هي التي أحدثت هذا التحول داخل الاتحاد الأوروبي، بعدما هددت بإطلاق موجة اللاجئين التي تؤرق الدول الأوروبية.

تتخوف الأمم المتحدة من هشاشة الهدنة المطلوبة، ومن احتمال فشل اتفاق وقف الأعمال العدائية في سورية. هذا كله لأن الميليشيات الصغيرة لم تُستَشَر، ولأن سلطتها محدودة وضعيفة، وفق معايير واشنطن وموسكو. إضافة الى هذا العامل المؤثر، فإن هناك مجموعات شيعية عراقية موالية للنظام، ووحدات من «حزب الله»، وقوات إيرانية، وقوات سورية نظامية وغير نظامية، وقوات الوحدات الخاصة والاستخبارات.

هذه الأطراف كلها مستعدة لخرق الهدنة، على رغم جهود الدول الكبرى التي ترى في عملية تسليم المساعدات الإنسانية مدخلاً لإبرام اتفاق واسع يشمل كل القوى المحلية والخارجية.

لذلك، من العسير بلوغ أبرز أهداف الولايات المتحدة وروسيا، أي إضعاف «داعش» وإسقاطه قبل أن تتفكّك سورية، وتنسحب روسيا من أوحال المنطقة!