IMLebanon

قانون أميركي جديد لتجويع السوريين

 

«قيصر» لا يثمر تنازلات سياسية

 

 

لم يكد قانون «قيصر» يكمل نصف عامه الأول في حيّز التنفيذ، حتى بدأت تظهر بعض التسريبات عن نسخة جديدة مُعدّلة من القانون، ستُعرَض قريباً على التصويت، من شأنها ــ إذا ما أُقرّت ــ تشديد العقوبات المفروضة على دمشق. توجّه يشي بوضوح بفشل الرهان الأميركي على حصد نتائج سياسية من تطبيق «قيصر»، الذي لم يفعل أكثر من تعميق الأزمة المعيشية للسوريين، ومفاقمة معاناتهم في الحصول على المواد الأساسية

 

مع أنه لم يكن متوقّعاً أن تستجيب واشنطن للتحذيرات الأممية من خطورة الأوضاع الإنسانية في سوريا، وتُخفّف تالياً من عقوباتها الاقتصادية على دمشق، إلا أنه في المقابل لم يكن منتظراً أن تقابِل الإدارة الأميركية تلك التحذيرات بطرح مشروع قانون جديد يضاعف العقوبات المفروضة على هذا البلد، إلى حدّ يصفه رئيس قسم المصارف والتأمين في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، علي كنعان، بأنه عملية “خنق” اقتصادي، ولا سيّما أن قانون “قيصر” لم يكد يمضي على دخوله دائرة التنفيذ أكثر من ستة أشهر.

 

وبحسب ما تداولته وسائل إعلام، فإن المشروع الجديد جرى إعداده بالاستناد إلى توصيات لجنة دراسات “الحزب الجمهوري” في الكونغرس، الصادرة عام 2019. وهو يخوّل الرئيس الأميركي “إنشاء مناطق اقتصادية في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، لتنشيط اقتصادها، والسماح لها بإنشاء علاقات تجارية مع الولايات المتحدة وغيرها من دول العالم”. كما ينصّ على أن “سياسة الولايات المتحدة في سوريا يجب أن يكون هدفها الأول إطاحة الرئيس بشار الأسد ودعم الساعين إلى ذلك”. وتأتي هذه الخطوة، بحسب وسائل إعلام داعمة للمعارضة، “لسدّ ثغرات قانون قيصر، وقطع الطريق على إدارة جو بايدن، في حال تساهلها مع النظام السوري”.

ووفق تصريحات مسؤولين أميركيين، فإن المشروع الجديد يستهدف بشكل مباشر الأفراد والمؤسّسات والكيانات غير السورية التي لا تزال تتعامل مع الحكومة السورية، أو قد تتعامل معها مستقبلاً، في إشارة واضحة إلى الدول الحليفة لدمشق، أو تلك التي لا تزال تربطها بها علاقات تجارية واقتصادية. والغرض من ذلك، على ما يبدو، تصعيد الضغط على الحكومة السورية من بوابة تعميق الأزمة المعيشية لمواطنيها، والتي تفاقمت خلال الأشهر القليلة الماضية بفعل تأثيرات الأزمة الاقتصادية التي يشهدها لبنان من جهة، ومفاعيل قانون “قيصر” الأميركي من جهة أخرى.

 

آثار سلبية مُشجّعة!

ما الذي يجعل الإدارة الأميركية الحالية تتّجه، في أيامها الأخيرة، نحو سنِّ مثل هذا القانون؟ سؤال تتباين إجابته حتى لدى المسؤولين الأميركيين الحاليين؛ فهناك من ينظر إلى الخطوة على أنها محاولة لتقليص خيارات الرئيس الجديد في التعامل مع الملف السوري، وحصرها في استمرار ممارسة الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية، فيما يرى آخرون أن إدارة ترامب تودّ بذلك معاقبة النظام في سوريا على رفضه التعاون في ملفّ المواطنين الأميركيين المفقودين، وهي الورقة التي أراد ترامب استثمارها انتخابياً وفشل، وهناك فريق ثالث يشير إلى أن خيار العقوبات حقّق من وجهة نظر غربية نتائج مهمّة خلال العامين الأخيرين (2019-2020)، بدليل التدهور الحاصل في المؤشرات الاقتصادية لسوريا من قبيل الانخفاض الحادّ في سعر صرف الليرة، وارتفاع معدّلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وزيادة معدّلات الفقر، وتالياً، فإن فريقاً من السياسيين الأميركيين يرى أن من شأن مضاعفة العقوبات تشديد الضغوط على النظام للقبول بتقديم تنازلات سياسية كبيرة. لكن مهما تكن الغاية، فإن الأثر سيكون واحداً، وهو مزيد من إفقار السوريين، ومفاقمة معاناتهم في الحصول على أبسط احتياجاتهم الإنسانية.

 

يخوّل المشروع الجديد الرئيس الأميركي إنشاء مناطق اقتصادية خارج سيطرة الحكومة السورية

 

 

إلى الآن، لا تتوفّر بيانات إحصائية كافية حول حجم الضرر الذي لحق بالاقتصاد السوري من جرّاء تطبيق قانون “قيصر”، لكن الانخفاض الحادّ الذي تَعرّض له سعر صرف الليرة، بدءاً من منتصف عام 2019، وتسجيل أسعار السلع والمواد الغذائية وغير الغذائية ارتفاعاً غير مسبوق وصل إلى أكثر من أربعة أضعاف، والحديث الأممي عن ارتفاع عدد السوريين المحتاجين إلى الدعم والمساعدة إلى حدود 10 ملايين شخص، جميعها ظواهر تُعزى، في جزء أساسي منها، إلى تداعيات العقوبات الغربية. ويلفت كنعان، في حديثه إلى “الأخبار”، إلى أن “الاقتصاد السوري في مرحلة ما قبل قانون قيصر شهد تحسّناً في الإنتاج الصناعي والزراعي، وكانت هناك حركة صادرات مقبولة إلى بعض الدول؛ أبرزها العراق والأردن”. وهذا ما وثّقه أيضاً “المركز السوري لبحوث السياسات” في تقريره الأخير المتعلّق بتأثيرات الأزمة، حيث أفاد بأن الناتج المحلّي الإجمالي في عام 2017 حَقّق نموّاً بمقدار 3.3% نتيجة التحسّن النسبي في الأوضاع الأمنية في بعض المناطق، لكنه سرعان ما عاد وانكمش مجدّداً في عام 2018 بواقع 1.9%. أمّا في عام 2019 فقد شهد نمواً إيجابياً بلغت نسبته 7.9% ، وذلك نتيجة تراجع وتيرة المعارك، والنموّ الكبير المُتحقّق في القطاع الزراعي آنذاك. وبالتالي، فإن النشاط الحاصل في الأعوام الممتدّة من 2017 لغاية 2019 دفع “الحكومة الأميركية إلى إصدار قانون قيصر، الذي، على رغم استهدافه بشكل مباشر قطاع الطاقة وشركة الطيران، إلا أنه في المقابل أثّر بشكل غير مباشر على استيراد المواد الغذائية والمواد الأولية اللازمة للصناعة، مُتسبِّباً بارتفاع تكاليفها، وهو ما اضطرّ منشآت عدة إلى التوقّف جرّاء الفجوة المتشكّلة بين ارتفاع التكاليف وتدنّي القوة الشرائية”.

 

الخنق الاقتصادي

من وجهة نظر دمشق، فإن كلّ شيء متوقّع في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية السورية. وفي هذا الإطار، لا يبدو الحديث الهولندي عن التحرّك ضدّ الحكومة السورية في محكمة العدل الدولية منفصلاً عن إجراءات الضغط الاقتصادي الأخيرة، سواء من خلال “قسد” التي منعت نقل الحبوب والنفط إلى مناطق سيطرة الدولة، أو من خلال تهديد إدارة ترامب بسنّ قانون جديد يشدّد العقوبات الحالية. وباعتقاد الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة تشرين في اللاذقية، ذو الفقار عبّود، فإن “في جعبة الإدارة الأميركية العديد من الإجراءات للضغط على الحكومة السورية، وكلّما اشتدّت الضغوط أكثر يمكن الاستنتاج أن إجراءات الحصار لم تأتِ بما تريده الإدارة الأميركية، لأن هناك مئات الطرق للالتفاف على إجراءاتها، لكن من دون إنكار للتداعيات السلبية لتلك العقوبات على الاقتصاد السوري، وتالياً على المواطن السوري”. وحول تأثيرات مشروع القانون الأميركي المرتقب، يرى عبّود، في حديث إلى “الأخبار”، أن “التداعيات ستطال الجميع، لكنها لن تكون قاتلة، يعني سنتضايق جميعاً، ولكن لن نموت من الجوع”. أمّا كنعان فيذهب إلى القول: “إن واشنطن تفكّر من وراء مشروع القانون المقترح في تطبيق نظرية ما بات يسمى بالخنق الاقتصادي، وذلك عبر محاصرة الدولة محاصرةً شبه عسكرية للمستوردات ومنع الشركات من التعامل مع سوريا، أي عرقلة تأمين السلع الضرورية من مواد غذائية ومشتقات نفطية، وهذا ما سيقود إلى حدوث موجة غلاء جديدة وتوقف منشآت ومعامل جديدة عن الإنتاج، وهو ما تريده واشنطن، المعروفة ــــ وفق ما كتبه أخيراً وزير الزراعة السابق نور الدين منى ــــ باعتمادها طريقة التأثير بالموت البطيء على الحكومات التي تفرض عليها عقوبات اقتصادية ومالية، كي تحقّق السياسة الأميركية أغراضها السياسية”.

في الخيارات الاقتصادية المتاحة أمام دمشق، تبرز ضرورة انتهاج سياسة مختلفة في مجال الاعتماد على الذات، حيث لا يزال القصور سيّد الموقف، إمّا بفعل تخبّط إدارة الملفّ داخلياً، أو الفساد المنتشر والمرتكز أساساً على نشاط أثرياء الحرب وشركائهم الموجودين في مواقع مختلفة، أو غياب الجدّية في تنفيذ الخطط والاستراتيجيات الموضوعة لذلك، وهي احتمالات يرى عبّود أنها “لا تقلّ كارثية عن عقوبات قيصر”، في حين يثير كنعان مسألة العلاقات الاقتصادية مع بعض الدول وضرورة استثمارها بما يخفّف من تأثيرات العقوبات المُطبَّقة حالياً أو المرتقبة، محذراً من أن الضغط المعيشي سيدفع مجدداً بالكثير من السوريين إلى الهجرة باتجاه أوروبا، التي سيكون من مصلحتها في مثل هذه الحالة “الحدّ من تطبيق القانون عبر الفصل بين المسائل السياسية والإنسانية، ومساعدة المنشآت الصغيرة على العمل وتأمين مستلزمات استمرارها، وتالياً منع الشباب من الهجرة”.