لم يعد الكلام على اقتراب الدولة من الافلاس مجرد تكهنات او اشاعات مُغرضة يطلقها من يتربّص شرا بالبلد. حتى الوزراء، صاروا يحذّرون من احتمال الافلاس بوضوح. فهل وصلنا فعلا الى هذا المستوى من الخطر؟ وماذا سيقدّم لنا مؤتمر «سيدر» لتحاشي الوصول الى الانهيار؟
كثيرون فهموا خطأ إصرار الموفد الفرنسي بيار دوكازن، المسؤول عن تحضير ملفات مؤتمر باريس، على تغيير التسمية من «مؤتمر باريس-4»، كما كان شائعا، الى مؤتمر»سيدر». وظنوا ان الموفد يريد تكريم الارزة بهذه التسمية. لكن الوقائع اللاحقة تؤكد ان الهدف من تغيير التسمية، توجيه رسالة الى من يعنيهم الامر مفادها، ان المؤتمر الذي يجري الإعداد له يختلف هذه المرة عن المرات السابقة، فهو ليس مجرد امتداد لمؤتمرات باريس السابقة، ولا هو مؤتمر للدعم، بل أنه لقاء انقاذي شبيه الى حد ما بلقاءات الانقاذ التي عقدتها دول الاتحاد الاوروبي، في محاولة لمنع اعلان افلاس اليونان، وخروجها من منطقة اليورو بين 2010 و2015.
هذا التوجّه الجديد يمكن التأكّد منه عبر مجموعة مواقف ومؤشرات. وقد خرج منها الى العلن، ما قاله رئيس الحكومة سعد الحريري في كلمته امام المؤتمر الذي خُصّص لاستعراض المشاريع التي سيجري طرحها في مؤتمر «سيدر». وقال ممازحا قبل تلاوة كلمته الرسمية المكتوبة: «حاولنا ان نُقنع الموفد الفرنسي بالاكتفاء بالارزة (نسبةً الى تسمية المؤتمر)، لكنه لم يوافق وأصرّ على مجموعة شروط لإنجاح المؤتمر.
كلام شبيه قاله الموفد الفرنسي في اللقاء المغلق مع مجموعة من الاعلاميين في قصر الصنوبر، عندما سألوه اذا ما تعذّر على الحكومة اللبنانية تلبية الشروط المطلوبة قبل المؤتمر، أجاب: نقول للبنان شكرا والى اللقاء. (Merci et au revoir).
من هنا، ينبغي التعاطي مع مؤتمر «سيدر» على انه حزمة انقاذية، مشروطة باجراءات اصلاحية على الطريقة اليونانية. ولمن خانته الذاكرة في استحضار الظروف التي مرّت بها اليونان، قبل ان تطلب الانقاذ، وتدفع ثمنه طبعا، نذكّره بأن نسبة الدين العام الى الناتج المحلي وصلت الى 145% في العام 2010، عندما قررت اليونان طلب المساعدة. وفي العام 2011 ارتفع الى 165 %. في المقابل، أصبح النمو سلبياً منذ العام 2008، ووصل الى نمو سلبي بنسبة 6,9 في العام 2011. كذلك وصل العجز في موازنة 2011 الى نسبة 9,1 %.
اذا قارنا الارقام بالوضع اللبناني يتبيّن لنا اليوم، ان نسبة الدين العام الى الناتج المحلي وصلت الى حوالي 142%. نسبة النمو لا تزال ايجابية بفضل سياسة مصرف لبنان التي عوّضت غياب السياسة الحكومية، وضخّت في البلد اموالا ساهمت في الحفاظ على نمو بسيط يتراوح بين 1 و2%. أما نسبة العجز في الموازنة فوصلت في العام 2017 الى حوالي 8%، بينما سترتفع هذه النسبة الى حوالي 11% في العام 2018، وفق الارقام المتوفرة حتى الان.
تبقى الاشارة الأهم الى الاجراءات التي اتبعتها اليونان، وصولا الى نجاحها حاليا من الانتقال من الركود السلبي (ناقص 7%) الى النمو الايجابي بنسبة 1,5%. وقد بدأ الاقتصاد اليوناني يسجل مؤشرات ايجابية، ويتم الالتزام بالخطة القاسية التي فرضها الاتحاد الاوروبي، مقابل تقديم ثلاث رزم انقاذية بلغ مجموعها حوالي 325 مليار دولار. وهي بالمناسبة رزم قروض بفوائد منخفضة، من دون اي هبات مجانية.
ومن ضمن الاجراءات التي نفذتها اليونان، وكانت بمثابة شروط الزامية لاقراضها، حزمة إجراءات تقشفية استهدفت خفض إجمالي النفقات العامة على الأجور والرواتب من 1% إلى 5.5% عبر تجميد رواتب الموظفين الحكوميين وتقليص مكافأت العمل الإضافي وبدلات السفر.
كما وافق البرلمان اليوناني على مشروع قانون لرفع الضرائب على القيمة المضافة وعلى السيارات المستوردة وعلى المحروقات وخفض رواتب القطاع العام وتقليص المكافأت والبدلات الممنوحة للموظفين الحكوميين.
كما وافقت اليونان على خطة لخفض عجز الموازنة من نحو 9 بالمئة من الناتج القومي إلى 3 بالمئة .
لاحقا، قلّصت اليونان من جديد رواتب موظفي القطاع العام، وقامت بتسريح الآلاف من الموظفين الحكوميين من وظائفهم. وشهدت البلاد تظاهرات شعبية غاضبة بسبب الاجراءات التقشفية الصارمة والكبيرة، والتي اعتبرها اليونانيون تدخلا أوروبيًا في شؤونهم.
لكن، ورغم الغضب الشعبي جراء الاجراءات الاقتصادية الصارمة، إلا أن الواقع يؤكد اليوم نجاح الخطة في تحقيق الهدف منها.
هذه الوقائع ينبغي مقارنتها بالواقع اللبناني اليوم، من دون أن يُفهم منها انها دعوة الى خفض رواتب القطاع العام او تسريح الموظفين. لكن العبرة من استعراض هذه التجربة هي للدلالة على امر واحد: اللبناني سيضطر الى ان يدفع من حياته ثمن الانقاذ الاقتصادي، ولو انه غير مسؤول عن الوضع الذي وصلت اليه الدولة شبه المفلسة. وهناك مجموعة خيارات لدفع هذه الفاتورة، لكنها كلها تمر في معبر من التقشف والحرمان الاضافي وإضعاف الطبقة المتوسطة، وارتفاع نسب انتشار الفقر.
هذه الحقيقة هي التي حتّمت الحديث عن احتمال اعادة تسعير الليرة، وهو خيار غير الزامي، لكنه يصبح كذلك، اذا ارتأت الحكومة انها لا تستطيع اعادة خفض الرواتب، او ترشيق القطاع العام، او على الاقل وقف مسلسل التوظيف الانتفاعي العشوائي. بالاضافة طبعا الى ان وقف الفساد اصبح من الشعارات الميؤوس من تحقيقها رغم زحمة المحاضرات بالعفّة.