IMLebanon

الهواتف العميلة: سكِّر خطّك

 

لم تكن مسألة عابرة أن يتصدّى الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله شخصياً لمشكلة الهواتف الخليوية ويعطي تعليمات واضحة ومباشرة بعدم استخدامها مُركّزاً على أنّ هذا الهاتف هو العميل، وأنّ إسرائيل ليست بحاجة لعملاء على الأرض. كلام نصرالله أتى وكأنّه تكليف شرعي موجّه إلى مقاتلي «حزب الله» وعائلاتهم وكل القاطنين في القرى الجنوبية من أجل عدم استخدام هذه الهواتف التي يستطيع الموساد الإسرائيلي أن يخترقها للتجسّس عليهم.

لم يكن من الواجب أن يعطي نصرالله هذا الأمر كل هذا الإهتمام وهذا التركيز لو لم يكن «حزب الله» يعاني من مشكلة الإختراقات الإسرائيلية التي لم يستطع أن يضع حدّاً لها، والتي أدّت، ولا تزال تؤدّي، إلى إصابة أهداف كثيرة واغتيال مسؤولين وقادة في «الحزب» وتدمير مقرّات قيادة ومراكز عسكرية وشقق سكنية لجأ إليها عناصره.

 

منذ بدأت حرب الإشغال التي افتتحها الحزب في 8 تشرين الأول 2023 بعد يوم واحد على عملية «طوفان الأقصى»، وضع هدفاً أولياً له سمّاه عملية «فقء الأعين»، واستهدف الكاميرات وأجهزة الرصد والتنصت الإلكترونية التي ركّزها الجيش الإسرائيلي على أعمدة عالية لرصد تحركات «الحزب» في المناطق المحاذية للحدود. ولكن سرعان ما تبيّن أنّ هذه العملية لم تؤتِ النتائج التي توخّاها منها فاستطاعت إسرائيل أن تحقق إصابات دقيقة في أهداف محددة.

 

لا يُستغنى عنه

 

يبدو أنّ «الحزب»، بعد استمرار عمليات الإستهداف، وبعد سقوط عدد كبير من عناصره، وبعدما درس الأسباب التي تؤدّي إلى ذلك، ربط المسألة باستخدام عناصره أو أفراد عائلاتهم للهواتف الخليوية التي يتمكّن الموساد الإسرائيلي من اختراقها. ويبدو أنّ التعليمات التي أُعطيت لهؤلاء العناصر العاملين على الأرض لم يتمّ الإلتزام بها فاقتضى الأمر أن يتصدّى نصرالله لهذا الأمر شخصياً ومباشرة على الهواء لعلّ الرسالة تصل وكأنّها أمر عسكري. ولكن هل الهواتف الخليوية هي السبب فقط وهل يمكن للعناصر وعائلاتهم أن يتخلّوا عنها بعدما باتت من لوازم الحياة اليومية والأساسية؟

 

لم يقتصر الأمر على الهواتف. ثمّة مشكلة لا يزال «حزب الله» يعجز عن إيجاد حلّ لها. قبل الهواتف كانت هناك تعليمات بعدم استخدام الكاميرات في محيط المنازل والشوارع، وبفصلها عن شبكة الإنترنت على خلفية أن العدو الإسرائيلي أيضاً قادر على اختراقها واستخدام الصور التي تلتقطها، وبالتالي يمكنه رصد تحركات مجموعات «الحزب» واصطيادها. ومع الكاميرات وصل الأمر أيضاً إلى التحذير من الدخول إلى شبكة الإنترنت عبر أجهزة الكومبيوتر بمختلف أنواعها لأنها تتحوّل أيضاً إلى أجهزة تجسّس يمكن رصد حركة الذين يستخدمونها.

 

هل الهاتف هو السبب الوحيد؟

 

ولكن هل هذه هي المشكلة الفعلية التي يعجز «الحزب» عن حلّها؟ وهل هي السبب الوحيد؟ وهل يكفي اعتبار أنّها المشكلة حتى ينتفي البحث عن أسباب أخرى خصوصاً ما يحكى عن اختراقات أمنية عبر عملاء حقيقيين يرصدون تحركات الحزب؟ وهل كل الذين استهدفتهم إسرائيل من قياديي «الحزب» وعناصره، ومن قياديي وعناصر الجماعات الأخرى التي تشترك في القتال، كانوا يستخدمون الهواتف الذكية؟ وهل المقرّات الحزبية والبيوت التي يتم قصفها وتتحقّق فيها إصابات يكون السبب في ذلك أن فيها هواتف خليوية أو كاميرات أو أجهزة كومبيوتر موصولة على شبكة الإنترنت؟

 

صحيح أنّ «الحزب» يضع هذا الإحتمال في حسابه ويسعى إلى معالجته باعتباره ثغرة أمنية ولكنّه من الطبيعي أنّه لا يغفل موضوع أن تكون هناك أسباب أخرى واختراقات وعملاء على الأرض. ولائحة الموقوفين المتهمين بالعمالة طويلة ويظهر من خلال التحقيقات التي حصلت مع هؤلاء أنّ هناك أساليب جديدة مبتكرة للتجنيد وأنّ الموساد الإسرائيلي يعمل بلا كلل أو ملل على اختراق «الحزب» وبيئته وصولاً إلى المعلومات بأي وسيلة تتوفّر له. وهو في هذا الأمر يحقق تفوّقاً على «حزب الله» يعكس التفوق الذي يحقّقه على الأرض في حرب الإشغال المستمرّة منذ 8 تشرين الأول الماضي.

 

اعتبار أنّ الهاتف الخليوي هو السبب الرئيسي لنجاح عمليات الإغتيال يخفي تبسيطاً للمسألة لأنّها معقّدة أكثر من ذلك وتتطلّب إدخال عدة عوامل أخرى لتنفيذ العملية من رصد حركة الهدف والتأكّد من وجوده شخصياً ومن مكانه في سيارة متحرّكة أو في منزل، إلى تحضير المسيَّرة أو الطائرة المقاتلة، إلى اختيار القذيفة أو القذائف المناسبة، إلى وضعه في موضع الرمي ثم التنفيذ. وكل ذلك يتطلّب وقتاً لاتخاذ القرار أولاً ثم لمواكبة عملية التنفيذ في كل مراحلها حتى إعطاء الأمر وإطلاق القذائف. وكلّ ذلك لا يمكن أن يحصل من خلال رصد حركة الهاتف وحدها أو حركة حرارة الجسد التي يُحكى عنها من دون معرفة ما توفّره من معطيات مساعدة بطريقة دقيقة، وهل هي حقيقة علمية أم مجرّد تكهّنات بحثاً عن أجوبة لمعضلة أمنية يصعب حلها.

 

إغتيالات بلا هواتف

 

في 16 شباط 1992، عندما اغتالت إسرائيل الأمين العام السابق لـ»حزب الله» السيد عباس الموسوي لم تكن هناك هواتف خليوية بعد فكيف تمكّنت من تنفيذ العملية؟ الطريقة التي نَفّذت بها عملية الإغتيال لا تختلف كثيراً عن العمليات التي لا تزال تنفّذها. موكب سيارات يرافق الأمين العام. تم رصد حركته على الأرض خصوصاً أنّه كان يتحرّك مكشوفاً في احتفال محدّد في جبشيت في ذكرى اغتيال الشيخ راغب حرب في التاريخ نفسه قبل ثمانية أعوام. ولكن كيف حدّدت من خلال الرصد في أي سيارة كان وأي طريق سلك؟ وكيف استطاعت رصد السيارة التي كان فيها وهي تتحرّك على طريق بلدة تفاحتا وأطلقت صواريخ حرارية حارقة عليها أدّت إلى قتله مع زوجته سهام الموسوي وولدهما الصغير حسين؟

 

عندما نفذت إسرائيل عملية خطف الشيخ عبد الكريم عبيد عبر اقتحام عناصر الكوماندوس لمنزله في بلدة جبشيت الساعة الواحدة والنصف فجر ليلة الجمعة 28 تموز 1989، واعتقلته مع اثنين من مرافقيه، أحمد عبيد وهشام فحص، لم تكن هناك هواتف خليوية. كانت هناك معلومات محددة وموثوقة حول وجوده في المنزل وحول الطريقة التي ستُنفذ بها العملية التي تمّت باستخدام مروحيتين حطّتا في البلدة وأنزلتا مجموعة الكوماندوس التي توجّهت إلى المنزل ونفّذت العملية وعادت إلى إسرائيل.

 

وعندما خطفت أيضاً القيادي في الحزب الحاج مصطفى الديراني من منزله في بلدته قصرنبا في البقاع في 21 أيار 1994 لم تكن هناك هواتف خليوية. وحدة الكوماندوس أنزلتها طوافات في مكان بعيد نسبياً عن منزل الديراني وتوجّهت إليه سيراً واقتحمت المنزل وأخضعته لتحقيق سريع عن الطيار الإسرائيلي المفقود رون أراد، ثم اعتقلته وعادت به إلى إسرائيل.

 

من وسام الطويل إلى صالح العاروري

 

عندما اغتالت إسرائيل وسام الطويل القيادي في الحزب في 8 كانون الثاني الماضي قيل في البداية إنّ هاتفاً خليوياً استخدمه سهّل العملية التي نفّذتها طائرة مسيّرة أطلقت صاروخاً على السيارة التي كان يستقلّها بعد لحظات من خروجه من المنزل. ثم تسرّبت معلومات تقول إنّه اغتيل بعبوة ناسفة وإنّ هناك عملاء على الأرض نفّذوا العملية. ولكن لم يصدر عن «حزب الله» ما يؤكّد نظرية العبوة والعميل. ولائحة الإغتيالات التي نُفِّذت منذ 8 تشرين الأول باتت طويلة وهي لا تتعلّق فقط بقيادات بل بمجموعات من المقاتلين الذين أدرج الحزب أسماءهم على لائحة طريق القدس. ولا يخرج عن هذه اللائحة صالح العاروري القيادي في حركة «حماس» الذي اغتيل في الضاحية الجنوبية في 2 كانون الثاني الماضي بعد استهداف الشقة التي كان يعقد فيها اجتماعاً مع آخرين بصواريخ أطلقتها طائرة إسرائيلية أو أكثر، ولا تزال التحقيقات دون تأكيد السبب الحقيقي الذي أدّى إلى كشفه واستهدافه وإصابته، على رغم أنه كان هدفاً معلناً، وكان يتحرّك في أكثر من دولة وفي أكثر من مكان، وكان عليه أن يعتمد طرقاً أكثر سرّية. ولذلك يبقى السؤال عمّا إذا كان الهاتف الخليوي أو الكومبيوتر المحمول هما السبب؟

 

عمليات اغتيال كثيرة استهدفت قياديين في «الحزب» لم يكن للهواتف دور فيها بل نفّذتها مجموعات من العملاء بعضهم اعتُقِل وبعضهم فرّ أو لا يزال مجهولاً. من القيادي عماد مغنية إلى مصطفى بدر الدين إلى حسّان اللقيس وعلي ديب وغالب عوالي وعلي صالح وغيرهم…

 

وإذا كان «الحزب» يعاني من ثغرات في المعلومات بحيث لم يتمكّن بعد من اكتشاف التفوق الإسرائيلي عليه في مجال الأمن والإغتيالات، إلا أنه استطاع في مراحل سابقة تسجيل عدة أهداف في مرمى إسرائيل، خصوصاً في عملية أنصارية عام 1997 بعد استدراج الكوماندوس الإسرائيلي إلى كمين محكم من خلال أحد عملائه، وفي عملية استدراج العقيد الإسرائيلي الحنان تننباوم وأسره. إلا أنّ «الحزب» لم يستطع أن يحقّق توازناً أمنياً مع إسرائيل. وربما الإنجاز الأهم الذي يحققه على هذا الصعيد هو حماية أمينه العام السيد حسن نصرالله. وهو مدرك لمخاطر الإتصالات والهواتف ولذلك خاض حرباً في 7 أيار 2008 من أجل الحفاظ على شبكة اتصالاته الخاصة.

 

ولكن هل اخترقت إسرائيل فعلا هذه الشبكة؟ وهل ينجح الحزب في الحد من الإغتيالات من خلال منع استخدام الهواتف والأمر بأن «سكِّر خطك»؟ وبأي وسائل يتم الإتصال بالمجموعات التي تتحرّك وتنفّذ وتطلق الصواريخ وتشتبك مع الجيش الإسرائيلي؟ وهل سقطت نظرية فقء العيون التي اعتمدها الحزب مع إطلاق حرب المشاغلة؟