6 ملايين و835 ألف دولار هي قيمة صادرات الاسمنت اللبنانية سنة 2020، مقابل مليون دولار عام 2019، في حين أنّ سكّان لبنان يبحثون عن كيس الاسمنت بـ«السراج والفتيلة» ولا يجدونه إلا إذا دفعوا ثمنه أضعاف السعر الرسمي. تتذرّع الشركات بحاجتها إلى فتح المقالع لتتمكّن من الإنتاج بعدما شارف مخزونها على الانتهاء، قبل أن يتبيّن أنّها إما تُخبّئ الكميات لتُتاجر بها في السوق السوداء، أو تُفضّل تصديرها لتجني دولارات طازجة. أمام هذا السيناريو، تدعو السلطات الرسمية «كارتيل الاسمنت» إلى التفاوض معها حول ما يراه مُناسباً من إجراءات تُتخذ في حقّه!
حين استّلت وزارة الصناعة سيف مواجهة «كارتيل الترابة»، مُقرّرة إطلاق معركة في وجه ارتفاع سعر طنّ الاسمنت في السوق، وانقطاع هذه المادّة الأساسية، وتهديد الشركات بفتح باب الاستيراد إن لم تعمد إلى «تحرير» الكميات المُوضبة في مخازنها، لم يكن يحقّ لها أن تردّه إلى غمده من دون نتيجة لمصلحة المُجتمع والبيئة.
فبعد قرابة شهرين من الكرّ والفرّ المتواصلين بين الوزارة والشركات (المُتهمة بمخالفة القوانين والمعايير) الثلاثة: الترابة الوطنية ــــ اسمنت السبع، ولافارج ــــ هولسيم، وسبلين، تقترب «المفاوضات» من تمديد إضافي للعمل بالمقالع ورفع سعر المبيع الرسمي لطنّ الترابة. وقد صبّت «ظروف» انهيار الليرة في مصلحة الشركات المُحتكرة، وفي «تهشيل» أي استيراد للاسمنت، بعدما منعت وزارة الصناعة بيع الاسمنت المُستورد للمُستهلك بأكثر من 35 دولاراً للطنّ. وبحسب وزير الصناعة عماد حب الله «تقدّمت 5 جهات بطلبات استيراد. اثنتان منها لم تحدّدا السعر، وثالثة حدّدت سعر مليون و350 ألفاً، ورابعة حدّدت كلفته بـ 720 ألف ليرة، لكنّها قالت إنّها ستبيع الطن بحدود 600 ألف ليرة.
السعر مُحدّد حالياً بـ 240 ألف ليرة (من دون احتساب ضريبة القيمة المُضافة)، أمّا إذا اشتراه المُستهلك من أحد التجّار المُعتمدين فيُمكن بيعه بسعر أقصى يبلغ 320 ألف ليرة، علماً بأنّ الشركات تُقفل باب البيع المُباشر، مُتذرّعة بأنّه لا قُدرة لها على ذلك، فتكتفي بتوزيع الحُصص على التجّار، ومن هناك تُباع للمُستهلكين. يُعلّق رئيس لجنة «كفرحزير البيئية»، جورج عيناتي، بأنّ هؤلاء هم «سماسرة الشركات الذين يبيعون الناس بالسعر غير الرسمي، ثمّ يتقاسمون الأرباح بين بعضهم البعض». في المقابل، ينفي مُطلعون على عمل الشركات ذلك، مُعتبرين أنّه «في حال كان بعض التجار على علاقة بمديرين مُعينين داخل الشركات، فإن ذلك لا يعني تورّط الإدارة».
في كلّ الأحوال، يبقى الـ 240 ألف ليرة لطنّ الاسمنت سعر الورقة والقلم، ولكن عملياً «انقطعت» الترابة من السوق خلال الأشهر الماضية، وإذا ما توافرت تعذّر الشراء بالسعر الرسمي، فكان المُستهلكون عرضة لابتزاز التجّار. أسعار الاسمنت كانت تراوح بين مليون و300 ألف ليرة ومليونَي ليرة لدى بعض الباعة. ودائماً، يُربط ارتفاع الأسعار بندرة الكميات المعروضة مُقارنةً مع الطلب المُرتفع عليها. لماذا الإنتاج لا يُلبي حاجات الناس؟ تبرير الشركات لهذا «الشحّ» بالاسمنت أنّها لم تعمل طوال ثلاث سنوات لأكثر من 300 يوم عمل، وهو ما أدّى إلى نفاد المخزون. وقد ادّعت الشركات أنّها لكي تكون قادرة على تلبية طلبات السوق، يجب أن يُمدّد لها للعمل في المقالع، واستخراج الاسمنت. وبحسب ما يُنقل عن الشركات، فإنّها خفّضت نسبة التصدير، إلى حدّ التوقّف عن ذلك نهائياً، بسبب عدم تمكّنها أصلاً من تأمين حاجات السوق المحلية.
ولكن هل فعلاً الاسمنت مقطوع؟ أرقام الصادرات التي تنشرها الجمارك اللبنانية تنفي ذلك. في مقارنة إحصائية لعشر سنوات حول تصدير الاسمنت يظهر كيف تفاوتت الأرقام بين 2011 و2020.
ففي 2011، بلغت قيمة الصادرات قرابة 25 مليون دولار، لترتفع إلى 37 مليوناً و377 ألف دولار في 2012. بدأ الانخفاض في الصادرات سنة 2013، فسجّلت 17 مليوناً و438 ألف دولار و8 ملايين و254 ألف دولار في 2014. استمر تدنّي صادرات الاسمنت، الى 4 ملايين دولار سنة 2015، ونحو 3 ملايين ونصف مليون عامي 2016 و2017. ارتفعت الصادرات قليلاً إلى 4 ملايين دولار سنة 2018، لتنخفض إلى مليونين و388 ألف دولار عام 2019. المفاجأة كانت في الارتفاع الكبير في صادرات الاسمنت لعام 2020، فسجلت 6 ملايين و835 ألف دولار.
تُطالب الشركات برفع سعر طنّ الاسمنت من 240 ألف ليرة إلى 900 ألف
خلال زيارة حب الله لشركة «اسمنت السبع»، قال المدير الإداري في الشركة روجيه حداد إنّه «في سنة 2019 اشتغلت مقالعنا 230 يوماً، وفي 2020 جرى العمل لفترة 60 يوماً فقط بعد الانفجار المؤسف لمرفأ بيروت». فكيف يُمكن لمن عمل أيّاماً معدودة فقط أن يتمكّن من رفع حصص التصدير، وفي الوقت نفسه يتذرّع بأنّه لا توجد أعداد كافية للسوق المحلية، ويُساهم في رفع الأسعار؟ في هذا الإطار، علمت «الأخبار» من مصادر حكومية أنّ حب الله قد يلجأ إلى «استخدام ورقة التصدير مع الشركات الثلاث، فيضع قيوداً على التجارة الخارجية حتى تأمين حاجات البلد». والقصّة لا تنتهي عند هذا الحدّ، فالشركات تُطالب «برفع السعر الرسمي لطنّ الاسمنت من 240 ألف ليرة إلى حدود الـ 900 ألف. أعتقد أنّ السعر الحالي غير منطقي نظراً إلى الفارق في سعر صرف الدولار والتكاليف، ولكن ليس كما تطلب الشركات». لم يُفصح الوزير عن السعر الجديد، بانتظار انتهاء المفاوضات، ولكن بحسب معلومات «الأخبار» فإنّ الحديث يدور حول تسعير الطنّ بـ 450 ألف ليرة. التمترس خلف انهيار العملة ووجود تكاليف بالدولار، لتبرير رفع الأسعار، دحضه بيان نقابة المقاولين. ففي معرض مُطالبة الأخيرة بالسماح للشركات للعمل، ذكرت أنّ «مادة الترابة تُنتج محلياً ولا تحتاج إلى تعقيدات العملة الصعبة ولا إلى تحمّل الدولة أعباء الاستيراد». تردّ مصادر الشركات بأنّها «تستورد الفيول مباشرةً وتدفع ثمنه بالدولار النقدي، وهو ما يُكبّدها مصاريف كبيرة، إضافة إلى أكياس التغليف وغيره من المواد الأولية».
إضافةً إلى أسعار الاسمنت، لم يُحلّ أيضاً موضوع المقالع وتحديداً في منطقة شكّا (شمال لبنان) التي تواجَه بمعارضة شعبية ومن المنظمات المعنية بالبيئة. في الأسابيع الماضية، وبسبب ظرف صحي لوزير البيئة دميانوس قطّار، حلّ مكانه بالوكالة وزير الاتصالات طلال حواط. ما كاد الأخير يُمسك الخَتم بين يديه حتى انطلق لزيارة شركات الترابة في الشمال، وطرح التمديد ثلاثة أشهر للعمل في المقالع، والتي تنتهي المُهلة الاستثنائية المُعطاة لها غداً. يقول حبّ الله إنّ اجتماعاً سيُعقد اليوم مع الشركات لبتّ تمديد العمل بالمقالع أو لا، مع اتجاه إلى التمديد. وقد استبقت الجمعيات البيئية في الكورة الأمر بإصدار بيانات، مُندّدة تحديداً بإنشاء شركة بيئية. ماذا تعني هذه الأخيرة؟ يشرح جورج عيناتي أنّه شُكّلت في السرايا الحكومية «لجنة تشاركية مؤلفة من الوزارات المعنية والشركات الثلاث والجمعيات البيئية مهمتها مراقبة عمل الشركات. بعد فترة، لم تعد تُدعى الجمعيات إلى هذه الاجتماعات، واقترحت اللجنة تأسيس شركة تشاركية مهمتها إجراء عملية تطبيع بين شركات الوباء والموت والاحتكار والأهالي». يتهم الشركة التشاركية بأنّها تطلب مبالغ مالية من شركات الترابة بحجة إنماء الكورة والقيام بمشاريع للمجتمعات المحلية. الجمعيات تُعارض بطبيعة الحال تمديد عمل المقالع، «لأنّها ستؤدّي إلى زيادة مافيا السوق السوداء، ولدى الشركات كميات تكفي لأشهر، ولكن ما يقومون به يندرج في إطار الجشع التاريخي والهوس بتدمير البيئة».