IMLebanon

مقبرة «الميركافا»: هكذا «اقتنعت» إسرائيل بوقف الحرب

فشلت الحملة الجوية، في الاسبوع الاول من عدوان 2006، في تحقيق اهدافها العسكرية المرسومة، لتجد تل ابيب وواشنطن نفسيهما أمام محطة مفصلية تفرض عليهما تبني خيار عملاني بديل. ويمكن التقدير أنه حضر في واشنطن وتل ابيب، ابتداء، خياران: العملية البرية الواسعة، أو وقف الحرب

عملية برية واسعة أو وقف الحرب. يمكن التقدير أن هذين الخيارين كانا الوحيدين المطروحين أمام تل ابيب ــــ ومن ورائها واشنطن ــــ بعد فشل الحملة الجوية في الأسبوع الأول من عدوان تموز 2006 في تحقيق أهدافها.

كانت دون السيناريو الاول مخاوف المستويين السياسي والعسكري من خسائر بشرية قد يواجهها الجيش. ويعود ذلك، أساساً، إلى كيّ الوعي الذي حفره حزب الله عميقاً بفعل تجربة المقاومة في الحزام الامني، في الوجدان الإسرائيلي قيادة وجمهوراً. كما يعود الى معلومات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية حول جاهزية حزب الله بعد تحرير 2000، وتعزّز ذلك أكثر خلال المواجهات التي شهدتها بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب والطيبة والخيام وغيرها من البلدات. من هنا كان حرص صناع القرار السياسي والعسكري على تجنب اللجوء إلى خيار العملية البرية الواسعة، وهو ما أقرّ به تقرير «فينوغراد»، ودراسات عدة تناولت الحرب، فضلا عن أن الاداء العملاني طوال مجريات الحرب أكد هذا المفهوم.

في المقابل، كان وقف الحرب يعني اقراراً بالفشل، كما أكد نائب مستشار الامن القومي في مقاربته التي نشرها معهد ابحاث الامن القومي، بالقول: «عارضت الإدارة الأميركية وقفاً لإطلاق النار، لأنها أرادت ضربة قاصمة لحزب الله عبر الجيش الإسرائيلي. وأي وقف سريع لإطلاق النار كان يعني تعذر التوصل إلى تغيير فعلي في الوضع. وهو ما دفع وزيرة الخارجية (الأميركية، كوندوليزا) رايس، في 19 تموز 2006، إلى الرفض العلني لدعوة وقف النار» («الأخبار»، العدد ٢٩٣٠ السبت ٩ تموز ٢٠١٦).

وقد تبيّن، من خلال وثائق كُشفت بعد الحرب، أن هذا المفهوم كان حاضراً أيضاً لدى القيادة الإسرائيلية، عندما رفضت الاكتفاء بما جرى تنفيذه من ضربات والرهان على مفاعيله الردعية لاحقاً. ومن الواضح أن خلفية هذا الرفض يعود إلى أن تل ابيب كانت ترى ايضاً أن ذلك يعني فشل تحقيق الاهداف السياسية والاستراتيجية من الحرب، وخروج حزب الله منتصراً.

في هذه الأجواء، تبنّت تل ابيب كخيار بديل عن العملية البرية الواسعة والقبول بوقف النار، مفهوماً عملانياً أطلق عليه مفهوم «الروافع والتأثير»، ويقوم على استهداف اهداف لها تأثير في وعي قيادة حزب الله وجمهوره، وهو ما اعتبر لاحقاً بمثابة بدء مرحلة ثانية من الحرب.

تمحور الرهان في هذه المرحلة على أن مواصلة ضرب أهداف نوعية محدَّدة قد يُطوِّع حزب الله ويُخضعه لقبول الصيغة الأميركية ــــ الإسرائيلية لوقف النار التي تمثّل مدخلا لتحقيق الاهداف السياسية والاستراتيجية للحرب، لكن الواقع، أن هذا الخيار لم يؤدِ سوى إلى مزيد من الصمود السياسي للحزب، وثبات جمهور المقاومة على موقفه لثقته بالقيادة التي تدير المعركة، وادراكا منه لحقيقة العدوان الإسرائيلي واهدافه. وإلى ذلك، واصل المقاومون تسجيل المزيد من الانجازات الميدانية. ونتيجة هذه العوامل مجتمعة، لم تؤد هذه المرحلة سوى إلى مراوحة، بحسب تعبير «فينوغراد»، استمرت بين اسبوعين وثلاثة أسابيع.

وما فاقم المشكلة بالنسبة لإسرائيل أن حزب الله واصل، طوال هذه المرحلة، دك العمق الإسرائيلي بالصواريخ وفق وتيرة متناسبة ومدروسة مع الاعتداءات الإسرائيلية. كما سجل المقاومون بطولات مذهلة في التصدي لقوات الجيش الإسرائيلي في العديد من المواجهات (بنت جبيل ومارون الراس وغيرها) التي بدلاً من أن تكون مدخلاً للتأثير في قرار حزب الله، تحوَّلت كل منها إلى ملحمة بطولية حفرت عميقا في الوعي الإسرائيلي..

خلال هذه المرحلة شعرت الادارة الاميركية، كما يبدو من نص ايليوت إبرامز، باليأس من الرهان على الجيش في تحقيق المؤمل منه. ومع ذلك، كانت الادارة الاميركية تلبي مطالب رئيس حكومة العدو ايهود اولمرت، مرة تلو الاخرى، بتمديد فترة الحرب على أمل إحداث تغيير ما في مجريات الحرب يمكن تحويله إلى انجازات سياسية.

ولكن، في ضوء فشل الجيش الإسرائيلي المتواصل واستمرار حزب الله بقصف العمق الإسرائيلي وصولا إلى تراكم الخسائر، ارتفع منسوب القلق في تل ابيب من أن تنتهي الحرب بصورة راسخة لإسرائيل المهزومة لدى الرأي العام الإسرائيلي واللبناني والعربي والدولي، في مقابل تسجيل حزب الله بطولات اسطورية. هكذا، وجدت إسرائيل نفسها، مرة أخرى، أمام الخيارين نفسيهما: إما وقف النار والتسليم بالفشل والهزيمة، أو الانتقال إلى عملية برية واسعة. لكن اجواء القلق من مفاعيل تبلور صورة إسرائيل المهزومة، دفعت قيادة العدو، تحت ضغط الميدان والخسائر المتواصلة، إلى تبني خيار العملية البرية، وهو ما عُرف لاحقاً بالمرحلة الثالثة.

راهنت إسرائيل خلال هذه العملية على اختراق الخطوط الدفاعية للمقاومة. وهدف الهجوم البري المرتكز على سلاحي الجو والمدرعات الى احتلال المنطقة الواقعة جنوب الليطاني بالالتفاف عليها من محاور عدة. ومن المؤكد أن نجاح الهجوم البري كان سيفتح آفاقاً جديدة تغيّر اتجاه الحرب وتعيد تعزيز الرهانات لدى واشنطن واخرين. كما كان سيعزز منطق العدو ويغريه بالمزيد من التوسع. لكن النتيجة التي تمخضت عنها المعارك الضارية أنهت رهانات اسرائيل، ومن يقف وراءها. وواجه سلاح المدرعات الاسرائيلي هزيمة موصوفة حطمت اسطورته وتحولت معه دبابات «ميركافا» الى «قطع معدنية» متناثرة بفعل صواريخ المقاومين. ظهَّرت المواجهات الانكسار الميداني بأجلى صوره، وشكّلت صورة مكبرة لمجمل الفشل الذي واجهه العدو طوال الحرب، وخصوصاً بعدما استفاقت اسرائيل، مصدومة، على عشرات القتلى والجرحى وعشرات الدبابات المحترقة في محاور التوغل البري الواسع. ومع الفشل المبكر للمعركة البرية الكبرى أنهت اسرائيل خياراتها الميدانية وبات يقينا لدى قادتها أنها لم تعد قادرة على الاستمرار وتوفير «البضاعة» التي كان يأمل الاميركي، وآخرون في لبنان والخليج، الحصول عليها، ما دفعها الى السعي لوقف الحرب.

وهكذا بدلا من أن يُعدِّل العدو معادلات الميدان وتغيير صورة الحرب، كانت النتيجة أن تعمقت الهزيمة واضاف مقاومو حزب الله إلى بطولاتهم انجازاً نوعياً غير مسبوق، في المواجهة المباشرة على أرض المعركة حفر عميقاً في الوعي الإسرائيلي. وتحولت هذه «المجزرة» إلى معلم ومحطة مفصلية في حركة الصراع مع العدو. ونتيجة ذلك، بات النصر الاستراتيجي التاريخي أكثر تألقاً، وأكثر تأثيراً في الوجدان الإسرائيلي، وفي الوعي العربي… وفي المعادلات الاقليمية.