يبدو البلد في هذه المرحلة مشلولاً بشكل كامل، ولولا تركيز الاهتمام على جائحة «كوفيد-19»، لكان المشهد نافراً ومُقزّزاً أكثر. إذ انّ الجائحة خطفت الأنفاس، وغطّت على القرف السياسي الذي وصل الى مراحل متقدّمة من الانحطاط والانفصال عن الواقع الذي يعيشه الناس. وبعد انقشاع غبار الجائحة، وعودة الامور الى طبيعتها، سوف تعود الأزمة الاساسية الى الصدارة، وهي أزمة سياسية قادت الى كارثة اقتصادية ومالية.
من الوجهة المالية والاقتصادية، هناك امكانات وفرص متاحة امام لبنان للخروج من النفق، اذا تمّ عزل العوامل السياسية، وسُمح باتخاذ الإجراءات المطلوبة للحل. وتكمن نقاط القوة التي لا تزال متوفرة حتى هذه اللحظة، بالآتي:
اولاً- احتياطي من الذهب باتت قيمته توازي 80 أو 90 في المئة من حجم الاقتصاد (GDP) الحقيقي، الذي تراجع الى ما بين 19 و20 مليار دولار.
ثانياً- قوى لبنانية عاملة في الخارج، خصوصاً تلك الموجودة في دول الخليج العربي والقرن الافريقي، قادرة على رفد السوق بكمية من الدولارات الطازجة تتراوح بين 6 الى 7 مليارات دولار سنوياً، أي ما يوازي في الوضع الحالي حوالى 70% من حجم الاستيراد. وتشكّل نسبة هؤلاء حوالى 20% من مجموع القوى العاملة في لبنان. وهي من اكبر النسب في العالم.
ثالثاً- كادرات بشرية متخصصة ومتطورة، قادرة على تحويل البلد الى منصّة اقليمية في قطاع اقتصاد المعرفة، برغم المنافسة الاسرائيلية وتقدّمها في السباق، وهو قطاع مفتوح على كل الأسواق العالمية.
رابعاً- شبكة مغتربين موزّعين في كل انحاء الكرة الأرضية، يمكن أن يشكّلوا جسور عبور على المستويين السياسي والاقتصادي، وأرضية جاهزة للدعم المعنوي قبل المادي. هذه الشبكة لا تتوفر بالقوة نفسها في دول كثيرة حول العالم.
خامساً- ثروة نفطية قابعة في المياه الاقتصادية، يصعب تحديد قيمتها الفعلية قبل استكمال عمليات التنقيب.
سادساً- ثروة عقارية غير مُستثمرة تملكها الدولة عبر المشاعات والاملاك البحرية والنهرية…
سابعاً- مؤسسات عامة يمكن تحويلها الى مؤسسات منتجة اكثر ورابحة من خلال الخصخصة، أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)، أو حتى من خلال الـBOT.
ثامناً- عقول ومهارات وخبرات بشرية متفوقة على مستوى المنطقة، في قطاعات الاستشفاء والتعليم والمال والمصارف والسياحة، جاهزة لإحداث الفرق عندما يتبدّل المشهد السياسي.
هناك لائحة أطول بنقاط القوة التي لا تزال موجودة، رغم الانهيار المالي والاقتصادي القائم، والذي قد يزداد تعقيداً وصعوبة مع الوقت. لكن المشكلة تكمن في المشهد السياسي. والمقصود هنا، ليس المشهد الحالي المرتبط بتشكيل الحكومة، حيث أصبحنا امام حكومة تصريف أعمال مستقيلة، ورئيس مكلّف عاجز عن التأليف، بل في المشهد الأوسع المرتبط بالنقطة التي يقف فيها البلد، وسط الصراع الاقليمي الذي صار اكثر وضوحاً وشراسة، وينعكس مباشرة على الوضعين المالي والاقتصادي.
لكن هذا الواقع لا يعفي السلطة الحالية بكل مكوناتها، لاسيما منها حكومة تصريف الاعمال من مسؤولياتها. وهي المسؤولة عن هدر حوالى 11 مليار دولار منذ سنة ونيف ولم يرف لها جفن. وهي مستمرة في هذا الهدر تحت عنوان الدعم، رغم علمها بأنّ نسبة صغيرة جداً من الاموال التي تُدفع للدعم تصل الى المواطن المحتاج، في حين انّ القسم الأكبر من الاموال تذهب الى تجار أو متحايلين، أو ميسورين، سواء عبر التهريب الى سوريا أو عبر الإفادة من السلع المدعومة لتحقيق ارباح غير مشروعة، أو لتهريب الاموال الى الخارج، أو حتى للإفادة من استمرار السرقة في الداخل، كما يحصل في العقود التي يتمّ تجديدها بلا أي مجهود لخفض كلفتها، وتُدفع بالدولار.
قد يتراءى للبعض أنّ المواجهة المفتوحة اليوم بين الحكومة ومصرف لبنان ترتبط بتصفية حسابات شخصية، كأن يُقال انّ حاكم المركزي الذي يشعر بالضغط السياسي عليه، من خلال تحريك ملفات قضائية في وجهه، يحاول ان يردّ الصفعة عبر فتح ملفات تدين جهات سياسية بالفساد، كما هي حال الكهرباء مثلاً. لكن الواقع مختلف تماماً، ويشير الى انّ المواجهة أصبحت محصورة في الهروب من ساحة المعركة، بعدما بات اعلان الهزيمة في الحرب على قاب قوسين أو أدنى. وعندما يُهزم بلدٌ في حرب مدمّرة ويُطلب من شعبه دفع الثمن، يتعرّض المسؤولون عن الهزيمة للمحاكمة، سواء المعنوية او الفعلية. وهذا ما يجري اليوم في الصراع بين حكومة تريد أن تخرج بأقصى سرعة لئلا تتحمّل مسؤولية المشهد الاسود الذي ستتضح معالمه قريباً، وبين مصرف مركزي يرفض حاكمه، ومعه المجلس المركزي، أن يكون في الواجهة، عند اعلان الهزيمة.
إرتكزت طبيعة الصراعات في الماضي على النفوذ، وكان كل طرف في المعادلة يستميت في الدفاع عن «حقوقه» في أن يكون صاحب القرار وليس سواه. لكن المواجهة بين الحكومة ومصرف لبنان حالياً، هي في الاتجاه المعاكس، انّها معركة للتخلّي عن النفوذ والقدرة على اتخاذ القرارات. الحكومة تقول لمصرف لبنان انّها غير معنية ولا تستطيع أن تقرّر شيئاً، والمركزي يدعو الحكومة الى تحمّل مسؤولياتها واتخاذ القرارات والتوقيع عليها، لأنّه غير راغب في هذه المسؤولية التي تتجاوز حدود قدراته وصلاحياته.
جرت العادة على أن تكون الصراعات في البلد من أجل انتزاع النفوذ والسلطة، وهو مشهد يعكس الفساد والانحطاط. أما وقد وصل الصراع الى مرحلة القتال من أجل التخلّي عن سلطة القرار، فهذا يوضح أين أصبح البلد اليوم، وأين سيكون غداً.