مع تحرير التجارة والعولمة وحرية تدفق رؤوس الاموال والعمالة بات الاقتصاد الكلي يواجه تحديات كبيرة، الأمر الذي جعل القيّمين على النظام المالي العالمي في حال قلق حيال خطر الصدمات.
أدّى عصر المنتجات المصرفية المعقدة والمتطورة الى صعوبة في تنظيم الهيكل المالي، بل ان العديد من المصارف المركزية في العالم فشلت في توفير وظيفة المراقبة على النظام المصرفي مما جعل الامور تزداد تعقيدًا.
حسب العديد من الاقتصاديين أدّى هذا الأمر الى انهيار مالي عالمي في العام ٢٠٠٨. ومع تقلص النمو في الاقتصادات المتقدمة منذ بداية الالفية الجديدة كان لا بد لحكام المصارف المركزية من وضع نهج اكثر ابتكارًا لادارة وحماية اقتصاداتها.
وبينما بدت اولويات المصارف المركزية في العالم المتقدم تحقيق العمالة والنمو واستقرار الاسواق المالية كان اهتمام المصارف المركزية في الدول النامية متوجها نحو التضخم وكبح جماحه ومحاولة ترجمة النمو الايجابي بتنمية اقتصادية مستدامة.
كل ذلك ادى الى تنامي تأثير المصارف المركزية مما جعل مكتب محافظ البنك المركزي اكثر اهمية وبات تحدي الدول في العالمين المتقدم والنامي واحد وهو كيفية اختيار حكام المصارف المركزية، وهذه مسألة يتداولها الاقتصاديون والسياسيون على السواء.
ما لوحظ أخيرا من ظواهر أثّرت، وبشكل مباشر، على القرارات المتعلقة باختيار هؤلاء الحكام. وجاءت الأزمة المالية العالمية لتوحي ببدء مجموعة جديدة من القواعد والمبادئ التي قد تكون غير مكتوبة انما اعطت اشارات عدة على كيفية اختيار هؤلاء الحكام وباتت الشغل الشاغل للعديد منهم.
واذا ما نظرنا نحو الفدرالي الأميركي نرى ان جانيت يلين وسابقيها غرينسبان وبرنانكي قدموا من الوسط الاكاديمي ويلين للعلم استاذة اقتصاد مع سنوات عديدة من الخبرة الاكاديمية.
واذا ما تطلعنا الى البنك المركزي الياباني او الاوروبي نرى ان الحاكمين، هاروهيكو كورودا او ماريو دراغي هم من الاكاديميين الذين تركوا المهنة من اجل رسم السياسات الاقتصادية العالمية، ومارك كارني درس الاقتصاد حتى مستويات الدكتوراه وله خبرة مميزة في التمويل قبل انضمامه الى البنك المركزي الكندي.
لكن ما يزال هناك بعض الاستثناءات عن القاعدة من الذين لا يملكون شهادة جامعية في الاقتصاد ولكن لديهم خبرة هامة في رسم السياسات العالمية. لذلك تكون خبرة المرشحين وقدرتهم على التفكير في مختلف الخيارات والاحتمالات كذلك خبرتهم الاكاديمية عناصر مهمة تؤخذ بالاعتبار.
الملفت ان العديد من الدول باتت ترشح اشخاصًا ليسوا بمواطنين لا سيما عندما عينت بريطانيا Carney الكندي الجنسية حاكمًا للبنك المركزي الانكليزي ومحاولة الحكومة الاسرائيلية استبدال ستانلي فيشر بلاري سامرز والذي رفض العرض.
كذلك في عصر الاعلام هذا يجب ان يكون حاكم المصرف المركزي قادرا على مواجهة وسائل الاعلام سيما وان كلماته تحمل وزنًا يمكنه بواسطتها بسهولة تعكير صفو الاسواق المالية المحلية والعالمية (كما هي الحال مع جانيت يلين)- والسؤال المنطقي الذي يتبادر الى الاذهان هو ما اذا كانت الخصائص الشخصية كحكام المصارف المركزية تؤثر على النظام المالي وهذه الخصائص يمكن اخذها بالاعتبار عند اختيار الحكام.
ولا بد من القول ان هذا الخيار يمكن ان يؤثر بدرجة كبيرة على السياسة المالية ونتائجها. وعلى سبيل المثال رئيس الاحتياطي الفدرالي الاميركي السابق الان غرينسبان كان له تأثير كبير في الغاء الضوابط التنظيمية في الولايات المتحدة، وعلّل ذلك بينما خليفته بن برنانكي كان له دور كبير في تطوير عمليات الاستجابة للأزمة المالية الاخيرة، وبينما برنانكي لا يتمتّع في الواقع بخبرة في القطاع المالي كان غرينسبان على النقيض لديه خبرة واسعة في هذا المجال. ويبدو ان هذه العلاقة نسبية بين الخبرة بالشؤون المالية والتحرير المالي.
أهمية حكام المصارف المركزية تتجلّى في كثير من الحالات سيما في ما يتعلق بأزمة الديون الاوروبية وصياغة سياسة نقدية في البنك المركزي الاوروبي وتنسيق السياسة المالية عمومًا في جميع انحاء الاتحاد الاوروبي.
بشكل عام، تختلف الامور بين الدول حول مثل هكذا تعيينات سيما ان الملف له من الأهمية ما يجعل الاختيار دقيقا للغاية لجهة كيفية تعيين الحكام ومدة ولايتهم، وهذه الامور تختلف بين الدول، ولو ان المبدأ العام هو ان التعيينات تعتمد آلية من شأنها التقليل من هشاشة حاكم المصرف المركزي واستبعاد تعرضه للضغوط السياسية .
لا تخلو العلاقة بين البنوك المركزية والحكومات من بعض الاحتكاك، ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك عام ١٩٨٨ عندما تواجه آلان غرينسبان رئيس البنك الاحتياطي الفدرالي علانية مع احد مسؤولي الخزانة الاميركية والذي كان قد طلب منه عملية تسهيل السياسة النقدية. لكن الاحصاءات تدل على ان مثل هذه الامور عادة ما تحصل في جميع انحاء العالم الا انها اكثر شيوعًا في البلدان النامية.
لذلك قد تكون التحديات التي تواجه المصارف المركزية بعد الأزمة المالية العالمية كبيرة وفاعلة في عملية تعيين حاكم المصرف المركزي ودوره.
وقد يكون اهم هذه التحديات:
١- الدور الذي يلعبه حاكم المصرف المركزي في تفعيل السياسات المالية والنقدية وما يمكن ان تتأتى عنها من تداعيات في جميع انحاء البلاد.
٢- التوقعات غير الواقعية من قبل الجمهور والسياسيين حول الدور الذي يمكن ان يلعبه حاكم المصرف المركزي والذي يكون في بعض الاحيان مبالغًا بها.
٣- امكانيات هؤلاء الاشخاص في مواجهة التحديات السياسية والتي قد تؤثر في بعض الاحيان على سياستهم النقدية مما يجعلهم محسوبين على فريق دون الآخر. الآن غرينسبان استطاع ان يتعاطى مع الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء.
في النهاية تبقى عملية الاختيار والتعيين عملية دقيقة جدا في مجال الادارة الاقتصادية ولعبة الخلافة تطرح اسماء بارزة تكون قيد النظر الجاد لمنصب الحاكم. ومن المفيد ان يعرض على المسؤولين الموكلين هذه العملية اسماء عدة مع سيرهم الذاتية وخبراتهم وشفافيتهم قبل اي عملية تعيين.