في عام 1997، زار رئيس التفتيش المركزي (المعين حينها) الرئيس رفيق الحريري ليشكره على تعيينه. بادره الحريري بالقول: «هذا الجهاز سنلغيه على كل حال!»، أجابه رئيس التفتيش: «اذا لماذا تعينونني يا دولة الرئيس»؟ فقال رئيس الحكومة: «لا اطمئن، لن يكون ذلك في عهدك!». يبدو ان الغاء هذا الجهاز الرقابي المهم بات متقدّما على جدول الاعمال، فلا أحد من الإدارة أو السلطة السياسية يريد أن يعيد لهذه الهيئة الرقابية هيبتها واستقلاليتها وصلاحياتها
مضى عام تقريبا على تعطيل هيئة التفتيش المركزي. لم تلتئم منذ 23 شباط 2015. يومها، مزّق المفتش العام المالي صلاح الدنف محضر الجلسة الاخيرة، فانفجر الخلاف على الملفات المالية بينه وبين رئيس التفتيش القاضي جورج عواد، وتوقفت جلسات الهيئة منذ ذاك الحين.
سبقت هذه الحادثة مناوشات كثيرة بين عواد والدنف، كثرت معها بيانات الرأي المخالفة للأخير، وكان آخرها، بحسب مصادر في المفتشية العامة المالية، «بيان يتعلق بمشروع موازنة التفتيش رفض عواد ارفاقه بمحضر الاجتماع كما يقتضي قانوناً فوقع المحظور، ولم يحدد بعدها الرئيس موعداً لأي جلسة». الاجتماعات بحسب المرسوم 2460 بتاريخ 9 /11/1959، يجب ان تعقد بدعوة من الرئيس، إذ تنص المادة 3 منه على أنه: «تجتمع الهيئة بدعوة من الرئيس أو بناءً على قرار سابق مرتين على الأقل في الشهر وكلما دعت الحاجة الى ذلك. ينظم بكل اجتماع محضر يوقعه الرئيس والعضوان (المفتش العام المالي والمفتش العام التربوي)».
الأجواء هنا سلبية جداً
الاسئلة عن استمرار تعطيل جلسات الهيئة وشل الجهاز الرقابي التابع لرئاسة مجلس الوزراء حملناها إلى عواد الذي ضرب لنا موعداً في مكتبه. نصل في الوقت المحدد فيفاجئنا الرئيس بأنه قرر ألا يعطي أي كلمة عن التفتيش. يؤكد لنا أنه حاول قبل دقائق الاتصال بنا لإلغاء الموعد. «ما بدي وجع راسي»، يقول بصوت خافت وهو يفرك يديه ارتباكاً: «الأجواء هنا سلبية جداً، وقد اتيت إلى هذا الموقع بملء ارادتي، لكنني اليوم غير مرتاح ابداً، اعذريني وعندما اقرر ان اتكلم ستكونين اول من سأتصل بها».
كذلك يرفض المفتش العام المالي الحديث علنا عن خلافه مع رئيس التفتيش، تردد مصادره ان «الخلاف مع عواد ليس شخصياً بل على الملفات والتعطيل المتعمد للتفتيش المركزي». تنفي المصادر أن يكون هناك أي ملف مالي نائم لديها سواء قبل الحادثة أو بعدها «، إذ نحوّل أكثر من 50 ملف تحقيق في العام إلى رئاسة التفتيش لعرضها على الهيئة. تسأل المصادر: «لماذا لم تفرج رئاسة التفتيش عن ملفات مثل قضية سجن رومية وقضية عبد المنعم يوسف وغيرهما؟ لماذا لم يستخدم رئيس التفتيش صلاحياته في التحقيق مع موظفي الفئة الأولى ويستدعي يوسف إلى مكتبه؟».
رئيس التفتيش: الأجواء هنا سلبية جداً
وترى المصادر أن «الهيئة تمتنع عن وضع يدها على تقرير التفتيش المالي بقرار سياسي». تضيف: «لا يتدخلون في توقيف كل الملفات المنطوية على فضائح. يهمهم فقط الملفات التي تعني الرؤوس المغطاة سياسياً. ضغطوا على المفتشية العامة من اجل التلاعب بالملفات اللي طالعة ريحتها، لكنها لم تقبل، وباتوا بعدها ينزعجون من بيانات الراي المخالفة».
الوزير السابق شربل نحاس سأل هو ايضاً عبر برنامج الفساد على قناة الجديد: «لماذا احتفظ عواد بالشكاوى الموثقة ضد عبد المنعم يوسف 3 سنوات في مكتبه ولم يفعل شيئاً بها؟»، لافتاً إلى أنه ليس هناك حجة للموظف ان ينفذ الأمر المخالف للقوانين التي أعطت الموظفين في الهيئة الرقابية حصانة ليمارسوا دورهم بحيادية و»ما حدا بيسترجي يعمل معهم شي». اذ لا يحق لأحد أن يوقف التحقيق، فالمفتش، بحسب المادة 6 من المرسوم 2862 بتاريخ 16/12/1959 (أصول التفتيش) يثابر على التحقيق في الموضوع الذي شرع فيه إلى أن يستكمله حتى يصل إلى النتائج والمسؤوليات.
الحكم لم يصدر
المفتشية العامة المالية راجعت مجلس شورى الدولة بدعوى ابطال عدم دعوة الهيئة إلى الاجتماع وتعطيل المرفق العام، لكن الحكم لم يصدر بعد. يوضح رئيس المجلس القاضي شكري صادر أن هناك 7 دعاوى خاصة بالتفتيش على طاولة غرفة الموظفين منها ما يتعلق بالساعات الإضافية والمكافآت، مشيراً إلى ان قرار وقف التنفيذ يصدر بالاستناد إلى مذاكرة بين قضاة المحكمة ويشترط ان يكون هناك ضرر بليغ ومخالفة قانونية فادحة، أما سرعة البت فتعود إلى المتقاضين، لكون المهلة المحددة في القانون هي 8 أشهر من تاريخ رفع الشكوى. برأيه، الحل هو بيد مجلس الوزراء الذي لا يزال يقف متفرجاً على نشر الغسيل في هذا المرفق الحيوي، وهو يستطيع بشحطة قلم أن يعيد له هيبته. يقول: «شل هذا الجهاز الرقابي ليس امراً بسيطاً كالخلاف على تعيينات او ما شابه».
هي مسألة هيبة واستقلالية عند الأشخاص لافي النصوص فحسب، يقول القاضي الإداري المتقاعد سليم سليمان، موضحاً أن القرارات الصادرة عن هيئة التفتيش ملزمة ولها صفة قضائية. فالمادة 19 من المرسوم الاشتراعي 115 بتاريخ 12/6/1959 (إنشاء التفتيش المركزي) تنص على: «… وللهيئة بعد فرض العقوبات التأديبية المقتضاة أن تحيل المسؤول على المجلس التأديبي المختص وان تقرر احالته امام ديوان المحاسبة وان تطلب من المدعي العام التمييزي ملاحقته جزائيا. لا يتوجب لهذه الاحالة او الملاحقة اخذ موافقة السلطة الادارية».
يلفت سليمان إلى أن مشكلة التفتيش هي جزء من ازمة «الطبقة» الحاكمة التي تريد للدولة أن تمشي عرجاء.
تلبية رغبات السياسيين
تقول مصادر المفتشية العامة المالية إن الحلول اقتصرت حتى الآن على وعود من القصر الحكومي بالتدخل لترطيب الأجواء وارسال رئيس مجلس النواب نبيه بري موفداً من قبله للصلح بين الموظفين المتخاصمين! في المقابل، بلغ التطاول على الجهاز الرقابي الحد الذي بات فيه الوزير يطلب فيه من رئيس التفتيش سحب شكاوى. يقول نحاس في اللقاء التلفزيوني نفسه إن وزير الاتصالات بطرس حرب طلب وقف الشكاوى ضد عبد المنعم يوسف في مخالفة صريحة للقوانين، مشدداً على أنه لا يحق للتفتيش أن يلبي طلبه.
يروي أحد المفتشين الإداريين أن مديراً عاماً لأحد المرافق العامة اتصل به ليطلب منه استعادة صورة عن الملف الذي يحقق فيه بطلب من الوزير، ما يتناقض مع النص الذي يقول ان المفتش يطلع رؤساءه على تحقيقه فقط. يقول إن المفتش يشعر أنّه وحده في مواجهة الوزير، فرئيس التفتيش لا يأخذ موقفاً مواجهاً للوزراء الذين يمنعون التفتيش من ممارسة مهماته، بل يطلب منا التقيد بمذكراتهم أو كتبهم التي يرسلونها اليه، سائلا: «هل يلغي تعميم وزير صلاحيات رئيس التفتيش؟».
وكان التفتيش قد استجاب لكتاب صادر عن رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري يحمل الرقم 1507 بتاريخ 15/10/2001 وينص على عدم صلاحية التفتيش المركزي في مساءلة الوزراء ومراقبة اعمالهم»، بحيث يخرج عن نطاق اختصاص التفتيش الأعمال التي يقوم بها الوزراء الذين لا يجوز اعتبارهم بحكم الموظفين…». وهنا يوضح المفتش العام التربوي السابق في كتابه «ثمار الإدارة الفاسدة» أنّه «يمنع التطرق إلى اعمال الوزراء في التحقيقات التي يجريها التفتيش، ليس فقط بعدم مساءلتهم على مخالفتهم للقوانين والانظمة، انما بوجوب عدم الإشارة ألى اسمائهم او زجها في اي تحقيق حول أي مخالفة مهما كان نوعها».
مفتشون غير محميين
يؤكد المفتش الإداري أنّ نقطة ضعف المفتشين الميدانيين أنهم غير محميين لكونهم لا يستمدون سلطتهم وهيبتهم من جهازهم و»اللي قاعدين بمكاتبهم يشترون ويبيعون على ظهرهم ولا يمانعون أن نصطدم بكل الوزارات، وبالتالي فإنّ كل مفتش يحمي نفسه بالطريقة التي يرى أنها تحفظ كرامته». يقول إنّ «الخلافات داخل التفتيش أتت لتكسر الجرة، إذ كنا نوهم الإدارة بأن هناك تفتيشا ومحاسبة، أما بعد المشاكل الحاصلة فلم يعد أحد يقبضنا والموظفون الذين نراقبهم يحكون بهيئة معطلة، وبالتالي لماذا سيخافون من المساءلة؟». يسأل: «لماذا لا تناقشنا إدارة التفتيش في تفاصيل الملفات التي نحقق فيها والتوصيات التي نقترحها؟ لماذا لا تنشر قرارات الهيئة كما كان يحصل في السابق؟ لماذا يحجب حق المفتش في الفئة الثانية في فرض العقوبة المنصوص عنها قانوناً وخصوصاً أن هذا الحق يعطينا جزءاً من هيبة؟». يستدرك: «كثيرون ممن لديهم شكوى يحجمون عن تقديمها للتفتيش لكونهم غير مؤمنين بأن هذا الجهاز الرقابي هو ملاذ الموظف. لو كانت الشكاوى الموجهة الى التفتيش تصل إلى خواتيمها الادارية المرجوة والموضوعية لكان قد تضاعف عددها، إلاّ أن عددها اليوم يكاد لا يذكر».