Site icon IMLebanon

مئويّة ترحيل الأرمن: البابا يعاقب أردوغان على داعشيَّتِه

في روايتها الرائعة “ابنة زنى اسطنبول” الصادرة عام 2007 بالفرنسية مترجمةً عن الانكليزيّة تكتب إليف شافاك عن حوار يدور على ضفاف البوسفور بين الصديقتين الشابتين الأميركية من أصل أرمني آرمانوش والتركية آسيا تقول فيه الثانية للأولى: الفارق بيني وبينكِ أنكِ بسبب الماضي المأساوي لعائلتك تريدين أن تحفظي ذكراه كما هو، بينما أنا أريد أن أنسى ماضيَّ، كل ما حصل قبل ولادتي”(¶).

هذه الرواية لكاتبة تركية اسطنبوليّة تحمل الدكتوراه في العلوم السياسية و درّست “سياسات الشرق الأوسط” في إحدى الجامعات في ولاية أريزونا الأميركية وتكتب باللغتين التركية والإنكليزية، هي من ذلك النمط من الروايات ولو الخياليّة التي يُفيد الروائي فيها قارئَه مثل المؤرّخ إن لم يكنْ أكثر، بعدما استفاد هو، أي الروائي، من التأريخ (الهمزة على الألف)،

… هذه الرواية التي تجمع مصائر عائلتين تركية وأرمنية في خيوط “مصاهرة” قديمة وصداقة جديدة والتي عرّضتْ كاتبَتَها يومها إلى ملاحقة قضائية في تركيا بتهمة تحقير “الهوية التركية”، عبّرت عن المدى الجديد النقدي الذي وصلت إليه أوساط المثقّفين الأتراك وقابلياتهم لمراجعة عميقة لتاريخ علاقتهم بالأرمن التي تُعتبر إحدى المسائل المعاصرة الأكثر صعوبة في وعيهم العام بل في الوعي التركي الوطني العام.

لم تدخل إليف شافاك السجن بالنتيجة، لكن قبل أشهر من تحريك الدعوى عليها وربما في الفترة نفسها التي كانت تكتب أو تُصدر روايتها، سيخسر الوسَطُ الثقافي والإعلامي التركي شخصيّة نشيطة ونادرة في اسطنبول هي الصحافي التركي الأرمني هرانت دينك الذي ستغتاله أيدٍ متطرّفة، قومية على الأرجح، لتُرهب مسار المراجعة الذاتية التركية الآخذة بالتوسّع لتاريخ العلاقة مع الأرمن، هذه المراجعة التي بدأت تضم سياسيين وليس فقط مثقّفين وأكاديميين. وسيعبّر الوسط الإعلامي التركي عن موجة استنكار وإدانة لجريمة اغتيال دينك لا سابقة لها ومن الأكيد أنها كانت تعكس المستوى الحداثي المتقدّم للتجربة التركية الديموقراطية. وهذا يتجلّى في أن الكثير من المثقفين والسياسيين الأتراك باتوا مستعدّين لنوع من التسليم بمسؤولية الحكم العثماني عن مجازر حصلت بحق الأرمن في بدايات القرن العشرين باعتبارها ممارسات عنيفة وقاسية جدا بحق شعب بكامله ولو أنهم لا زالوا يعتقدون أن هذه الممارسات التي يجب الاعتذار عنها جاءت في سياق حرب أهلية داخلية بين الأرمن والأتراك غذّتْها لدى الأرمن مطامع دول كانت في حالة حرب مع تركيا وخصوصا روسيا. غير أن كل المثقفين النقديين باتوا يسلّمون بأن الترحيل كان عمليةً منظّمة بقرار مركزي من اسطنبول.

المهم هنا هو أن الوسط الثقافي التركي كان رائداً في عملية دفع المراجعة الذاتية للتاريخ التركي تجاه الأرمن عبر ضغطه على الدولة من جهة وعلى الأوساط القومية والإسلامية المتطرفة في تركيا من جهةٍ أخرى. كانت بعض الأصوات الثقافية الأرمنية قد بدأت تحاول أن تلاقي القابليات التركية النقدية بمواقف من الضفة الأخرى للوصول إلى حل من نوع المقالة التي نشرتها ” النيو يورك تايمز” قبل أيام ( 17نيسان) لميلين توماني والتي تدعو فيها الأرمن إلى “عدم جعل “الإبادة” هي العنصر الوحيد الذي يحدّدهم أو يعرّف عنهم” بمناسبة اقتراب الذكرى المئويّة لتلك الأحداث في الرابع والعشرين من نيسان الجاري.

ظهرت الأمور مشجّعة في السنوات اللاحقة بعد اغتيال دينك على إمكان إحداث اختراق جدّي في العلاقات الأرمنية التركية وساهم في ذلك تصريحٌ ملتبسٌ ولكن إيجابي العام المنصرم من رئيس الوزراء آنذاك رجب طيِّب أردوغان بتوجيهه “التعازي” للأرمن على المعاناة التي تعرّض لها أسلافُهم في الربع الأول من القرن العشرين.

لكنْ في الوقت نفسه وعلى طريقته في السياسة الخارجية كان أردوغان ومنذ بداية الأحداث في سوريا عام 2011 متورّطا في سياسات دعمٍ لمنظمات أصولية متطرفة في الحرب داخل سوريا. هذه المنظمات لم تُسئ فقط إلى قضية الجذور الديموقراطية والمدنيّة للثورة السورية بل كانت منغمسةً أيضاً في سياسة تنكيل واقتلاع للمسيحيين السوريين في كل المناطق التي دخَلَتْها…

كان الفاتيكان على ما يبدو يراقب هذا الانحراف الأردوغاني الطائفي بصمت… إلى أنْ حصلت الفضيحة الكبرى التي ارتكبها والمتمثّلة بدعمه لِـ”داعش” تأسيساً واندفاعاً وتوسّعاً في العراق وسوريا والتي أسفرت عن أكبر موجة تنكيل بِـ وترحيل للمسيحيين العراقيين والعديد من الأقليات الأخرى في سهل نينوى والموصل وقف العالم مشدوهاً أمام هولها وكان المتهم الرئيسي فيها رجب طيّب أردوغان.

أظن، وليس هذا بعيدا عن تقدير بعض الأوساط الديبلوماسية، أن رعاية الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان التنظيمية المخابراتية والجيوبوليتيكية لِـ “داعش” هي السبب الرئيسي الكامن وراء تصريح البابا فرنسيس الذي استخدم فيه تعبير “الإبادة” في وصف ما حدث للأرمن عام 1915 بالاستناد إلى موقف سابق للبابا يوحنا بولس الثاني. ولكنه سيذهب أبعد من سلفه عندما اعتبر هذه الأحداث أول إبادة في القرن العشرين كونها، حسب تصريحه، سابقة للإبادتين الستالينية والهتلرية. ثم سيربط البابا الماضي الأرمني بالموقف الراهن لمسيحيّي الشرق الأوسط بإدانته قبل أسبوع اضطهاد وقتل المسيحيين في الشرق الأوسط وسط صمت العالم وتجاهله.

كانت تلك طريقة الفاتيكان في “معاقبة” سياسة أردوغان في سوريا والعراق على مدى السنوات الأربع المنصرمة بما أدّت إليه من تراجع خطير للوجود المسيحي في المنطقة. وهي المسألة، أي موضوع المسيحيّين، الأساسية التي وضح فيها استياء الفاتيكان إلى حد إيعازه الصامت للعديد من الكنائس الشرقية الكاثوليكية بأخذ موقف ضمني، وأحياناً علناً، بتأييد النظام السوري في اختلاف جوهري عن سياسات الدول الغربية وبعض العربية الأساسية.

قيل إن البابا فرنسيس بحكم علاقته القديمة بالجالية الأرمنية النافذة في بلده الأرجنتين قد اتخذ هذا الموقف. ربما تكون هذه العلاقة مؤثّرةً لدى شخص البابا ولكنها من زاوية دولة الفاتيكان كمؤسسة تُراكم وتُراقب فهي تأتي في توقيت “داعشي” يعبِّر عن ردها على سياسات أردوغانية أصوليّة استهترت إن لم يكن تآمرت على الوجود المسيحي في العراق وسوريا.

هكذا “يقطف” أردوغان ثمنا سلبيا جديدا لسياساته العنيدة والخطرة التي خرّبت، برأي العديدين من السياسيّين والمعلّقين الأتراك وبينهم من هم داخل حزبه، حزب العدالة والتنمية، صورة تركيا في الغرب، أي سياساته السلطوية الداخلية، والعلاقات مع مصر وسوريا والعراق (والسعودية لولا الإلحاح اليمني الطارئ على أولويات المملكة).

لكن هذه ليست تركيا، بل أردوغان. فمن الظلم الشديد لهذا البلد، تركيا، الذي يمثّل الفرصة الوحيدة المتاحة حاليا لنجاح علاقة الإسلام بالحداثة وقَطَعَ مسافاتٍ تطويرية تجعله نمراً اقتصاديّاً شرقَ أوسطيّاً، من الظلم له مرتين: مرة لأن حاكما سلطويا اليوم كأردوغان ينفرد بسياساته ومرةً لأن ليست هذه صورته فعلاً الآن لكيْ تتعرّض سمعته، سمعة تركيا، إلى هذا القدر من النقد.

كان رجب طيب أردوغان في ولايتيه الأوليين كرئيس للوزراء قوة تقدم ديموقراطي وتحديثي لتركيا. بعد ذلك في الولاية الثالثة رئيسا للوزراء والأولى رئيساً للجمهورية صار عبئاً على صورة تركيا وخطراً على نموذجها.

عام 2010 ذهبتُ من اسطنبول إلى أقصى الشرق الجنوبي في تركيا حيث مدينة “فان” التي شهدت عام 1915 بعض أولى المواجهات بين الأحزاب الأرمنية ولاسيما الطاشناق وبين السلطة العثمانيّة وكانت المناسبة حفلة بمناسبة إنجاز ترميم كنيسة “إكدمار” الأرمنية للمرة الأولى منذ الحرب الأولى والموجودة على جزيرة داخل بحيرة “فان” على سفوح جبال القوقاز وليس بعيدا كثيرا عن جبل أرارات رمز الوطنية الأرمنية المقدس والموجود داخل أراضي جمهورية تركيا حاليا والذي يستفيق أرمن العاصمة الأرمنية يريفان فيرونه بالعين المجردة صباح كل يوم. فتخيّل لو أن الموارنة يستفيقون في إهدن ويشاهدون جبل الأرز مطلّاً عليهم من داخل حدود سوريا! كان وفد أرمني آتيا من جمهورية أرمينيا ليشارك في الاحتفال الذي دعت إليه الحكومة التركية ويصل للمرة الأولى برّاً عبر أحد المعابر بين البلدين.

كانت فعلاً تلك أياما واعدة

في العلاقات التركية الأرمنية. هل أفسدها أردوغان وترمّمها تركيا الجاهزة “طليعتها” الثقافية لعلاقات جديدة بنّاءة مع الأرمن.

كل تاريخ أو الأدق كل تأريخ تُقَطِّع الصراعاتُ الدينية والقومية ترابطَه. هل آن الأوان بسبب الانفجار الشامل في المنطقة ليُعاد وصل هذا التاريخ كما كان دائماً قبل سايكس بيكو. أحد وجوه العلاقات التركية الأرمنية بل الوجه الرئيسي في مراجعتها هو إعادة ربط تواريخ متباعدة ومبعَدة. وهذا يحترم لا ذكرى الضحايا الأرمن فقط بل الضحايا الأتراك أيضا على أكثر من جبهة في هذا التاريخ الطويل. ويجب أن لا تسمح تركيا مرةً أخرى بارتباط اسم حاكم فيها بترحيل المسيحيين ولو خارج حدودها.

عام 1915 رمز الإشكال كان طلعت باشا ورمز الإشكال الحالي الرئيس أردوغان. وتركيا المتمدِّنةُ والرائدةُ حداثيّاً اليوم لا تستحق هذا الخطأ “الداعشي” الاستراتيجي التركي في العراق وسوريا ولبنان ومصر وليبيا.