ما أكّده رئيس النظام السوري بشار الأسد للديبلوماسي الأميركي فريدريك هوف في لقاء بينهما عُقد في 28 شباط 2011، بأنّ «مزارع شبعا وتلال كفرشوبة سورية» يؤكّد المؤكّد، بدليل رفض هذا النظام تقديم الوثائق التي تثبت لبنانيتها على رغم المطالبات اللبنانية الرسمية وغير الرسمية المتكرّرة بذلك.
يعرف «حزب الله» جيداً حقيقة الموقف السوري من مزارع شبعا، ولكنه أخفاه على اللبنانيين لأكثر من 20 عاماً من أجل ان يحتفظ بسلاحه خلافاً للدستور، والتذرّع بأنّ مهمته لم تنته بالانسحاب الإسرائيلي في العام 2000. ولكن من يحاسب الحزب على سلوكه الذي فجّر انقساماً داخلياً عمودياً لم ينته بعد، وجرّ لبنان إلى حرب في العام 2006 أدّت إلى تدمير نصف البلد وخسائر بشرية ومادية لا تعدّ ولا تُحصى؟ وكيف يجب التعاطي مع هذا الحزب من الآن فصاعداً؟ وهل يمكن اعتبار الأسد، الذي أسرّ بكلام إلى ديبلوماسي أميركي أخفاه على اللبنانيين، بأقل من عدو للبنان؟ وما الإجراءات التي على الدولة اللبنانية المباشرة بها واتخاذها سريعاً بعد هذا التطور؟
قد يقول قائل انّه لا يفيد بشيء إثبات سورية مزارع شبعا، لأنّ «حزب الله» لن يسلِّم سلاحه للدولة سوى بقرار إيراني، وقام أساساً بربط سلاحه بتوازن الرعب مع إسرائيل، متحدثاً عن كونه مصدر قوة للبنان، وسلاحاً رادعاً لأطماع تل أبيب، وإلى آخر هذه المعزوفة المملة التي زاوجت بين تحرير المزارع والدفاع عن لبنان من أجل تعزيز حجج الاحتفاظ بالسلاح، ولكن على رغم ذلك، فإنّ الدولة مطالبة بالتحرك لحسم هذه الإشكالية لمرة أخيرة ونهائية، من خلال استدعاء السفير السوري في لبنان ووضعه أمام خيارين لا ثالث لهما، إما تأكيد ما أورده هوف على لسان الأسد، وفي حال تأكيده يعود إلى الدولة التسليم بسورية المزارع، او الدخول في نزاع قانوني دولي حسماً لهويتها، وإما نفيه والتأكيد على لبنانية المزارع، الأمر الذي يستدعي مطالبته بمراسلة الأمم المتحدة فوراً بالأمر لتحويلها إلى لبنان بشكل رسمي.
وبالتوازي مع استدعاء السفير السوري، على الدولة التعامل مع كلام هوف كوثيقة دولتية، واعتبار المزارع خاضعة للقرار 242، بانتظار إثبات هويتها القانونية، في حال قرّرت عدم التسليم بسوريتها، والدعوة إلى طاولة حوار لحسم الاستراتيجية الدفاعية التي يجب ان تستند حصراً إلى ركيزتي الدولة والقرارات الدولية.
فما كشفه هوف يجب ان يُعيد النقاش إلى المربّع الأول، اي سلاح «حزب الله» ودوره، وخصوصاً انّ هذا الكشف تزامن مع محاولة استيلاء سورية على مساحة بحرية لبنانية، من خلال التوقيع على عقد مع شركة روسية للتنقيب عن النفط في بلوك بحري متداخل في شمال لبنان، ويصل النزاع الحدودي البحري فيه إلى حوالى 1000 كيلومتر مربّع، الأمر الذي يستدعي من الدولة ألّا تكتفي بمعالجة هذه الإشكالية المستجدة التي تستدعي معالجة جدّية طبعاً، إنما الاستفادة منها والتأسيس عليها للعودة إلى القرار 1680 الذي ينصّ على ضرورة تحديد الحدود المشتركة بين لبنان وسوريا.
وفي الوقت الذي يرفض فيه النظام السوري ترسيم حدوده مع لبنان لاعتبارات أيديولوجية تتعلق بعدم اعترافه بالدولة اللبنانية، واعتباره انّ لبنان هو جزء من سوريا، يواصل «حزب الله» مناوراته، ليس فقط بادّعاء لبنانية مزارع شبعا، إنما أيضاً بإدخال النزاع الحدودي البحري مع إسرائيل جنوباً في مبالغات بحقوق لبنانية مخالفة لاتفاق الإطار الذي كان أعلنه الرئيس نبيه بري، وكل ذلك بهدف نسف المفاوضات من باب تقني لا سياسي، فيتلطّى بالتقني لإسقاط الترسيم سياسياً، لأنّه لا مصلحة له برفض الترسيم لاعتبارات سياسية تضعه في مواجهة مباشرة مع واشنطن.
ومعروف انّ الحزب لا يمكن ان يقبل بالترسيم لا البري ولا البحري، لأنّ الترسيم يُسقط ذريعته بالمقاومة، ما يعني انّ هذا الملف سيواصل دورانه في الحلقة المفرغة نفسها، ولن يخرج عن سياق عملية الإلهاء السياسية والإعلامية القائمة، فما يكاد يتقدّم حتى يتراجع إلى النقطة الصفر، لأن لا قرار بحسمه بسبب ان ترسيم الحدود مع إسرائيل ممنوع إيرانياً، كما انّ ترسيم الحدود مع سوريا ممنوع بعثياً، ويستحيل ان تتخلّى طهران عن هذه الورقة قبل ان تصل إلى تسوية شاملة مع واشنطن حول النووي والباليستي ودورها في المنطقة، فيما النزاع الحدودي بين لبنان وإسرائيل يبقيها في صلب الصراع مع تل أبيب.
فالحدود اللبنانية مع إسرائيل ممسوكة من إيران لاعتبارات لها علاقة بالدور الإيراني في المنطقة، فيما يتولّى «حزب الله» مهمة تغطية القرار الإيراني بحجج تقنية وعرقلة داخلية. وأما الحدود اللبنانية مع سوريا فممسوكة من قِبل نظام الأسد لاعتبارات أيديولوجية تتمثل برفضه الاعتراف بنهائية لبنان واستقلاله وسيادته، وما بين اعتبارات النظام الإيراني واعتبارات النظام السوري، ضاعت السيادة اللبنانية.
وفي موازاة المناورة التي سيواصل كل من النظام السوري و»حزب الله» اتباعها رفضاً لتطبيق القرارين 1680 و1701، وعلى رغم القناعة التامة بأنّ الترسيم لن يتحقق لا شمالًا ولا جنوباً، وانّ كل ما يحصل وسيحصل لن يخرج عن سياق المناورة السياسية، إلّا انّ هذا المعطى لا يعفي القوى السيادية من ثلاث خطوات متلازمة:
الخطوة الأولى، تحميل رئيس الجمهورية والحكومة المستقيلة والأكثرية النيابية، مسؤولية مخالفة الدستور وانتهاك السيادة، ومطالبتهم بضرورة تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة: 1559، 1680 و 1701.
الخطوة الثانية، دعوة المجتمع الدولي عموماً وواشنطن خصوصاً إلى وقف أو تعليق اي تفاوض حول الحدود البحرية المتنازع عليها مع إسرائيل، لأنّ «حزب الله» يستفيد من هذه المفاوضات التي لن تصل إلى اي مكان، كما مطالبة الأمم المتحدة بتخيير لبنان بين تطبيق القرارات الدولية او سحب القوات الدولية من الجنوب.
الخطوة الثالثة، الدفع قدماً بدعوة البطريرك الماروني إلى عقد مؤتمر دولي، من أجل ترجمتها على أرض الواقع، لأنّ لا حلّ للأزمة اللبنانية سوى من خلال مؤتمر من هذا النوع. وجاء النزاع الحدودي القديم-الجديد ليضيف مسوِّغاً إضافياً على ضرورة انعقاد هذا المؤتمر: انهيار مالي، حدود سائبة، سيادة منتهكة، دولة فاشلة…
فلم يعد الترقيع يجدي نفعاً، خصوصاً بعد ان خسر لبنان كل وضعيته ومقوماته، وجاءت رواية هوف لتكشف حقيقة نيات محور الممانعة بكل فصائله حيال اللبنانيين، وتثبت استحالة ان يعرف لبنان الراحة ما لم يتمّ وضع حدّ نهائي للتواطؤ السوري-الإيراني ضدّ لبنان واللبنانيين. ورواية هوف ما هي سوى إدانة إضافية لهذا المحور ما فوق سياسية، وتُضاف إلى سجله في إبقاء لبنان ساحة مستباحة لأغراضه ومصالحه وأهدافه.