IMLebanon

كرسيّ للصغار

هذا المقال هو شهادةٌ في واقع الحال. ليس من شأنه أن يخترع حلولاً للمأزق اللبناني الخطير، بل أن يدقّ جرس الإنذار بعد استفحال لهيب النار. للذين يهمّهم، من الرأي العام، ومن السياسيين، أن يقرأوا ما ينطوي عليه هذا المقال، عليهم أن يعرفوا تماماً وأكيداً، أنه لا يقصد التجهيل، ولا التعميم. مَن محفوظةٌ كراماتُهم، من أهل الطبقة السياسية، تظلّ كراماتهم محفوظة. أما الآخرون الذين تستهويهم لعبة الهاوية والخراب، ويعميهم الحقد والجشع والاستيلاء، فلا حول معهم، ولا قوة – يكاد البعض يقول – إلاّ (حتى؟!) بالله العليّ العظيم.

“السياسة الأكثر تكلفةً، والأشدّ إفلاساً وتدميراً، هي أن تكون صغيراً” (شارل ديغول)

كان ينبغي لهؤلاء أن يكونوا كباراً، لو لم يكونوا صغاراً. من أوصاف الكبار أنهم أهل حكمة وبصيرة وتعقّل وترفّع. وأنهم عندما يلعبون، يعرفون ما تُحمَد عقباه، وما لا تجوز المقامرة به. وإذ يُحسنون اللعب (كملاعبة الغول على الطريقة التونسية، صفحة 22 و23 من الملحق)، يحفظون الجوهر، ويصونونه، ويتجنّبون الوقوع في الفخّ والنزول في الهاوية. أما الصغار فمن أوصافهم أنهم يُستدرَجون إلى كلّ جبنةٍ مسمومة ليقعوا في غوايتها، ويصيروا لعبة الأمم و… مسخرتها.

قد لا ينفع مع هؤلاء، التقبيح العبثيّ، المرّ، المتهكّم، الأسوَد. لكننا، مع ذلك، نقبِّحهم قيمياً وأخلاقياً ووطنياً ودولتياً. ندعو القوى المدنية والديموقراطية والعلمانية إلى تنغيص نومهم ونهارهم. وندعو المسرحيين إلى تخصيص العروض المسرحية لتعريتهم سياسياً، والرسّامين إلى رسم الكاريكاتورات للنيل من انتهازياتهم، والغرافيتيين إلى طلس الجدران بفنون الغرافيتي تشهيراً بألاعيبهم، والكتّاب إلى تدبيج المقالات تشنيعاً بفعائلهم المشينة.

لكنْ، أسفاً. لا ينفع شيءٌ مع هؤلاء. ولا حتى التقبيح والتشهير. مَن يهن يسهل الهوان عليه/ ما لجرحٍ بميتٍ إيلام، يقول معلّمنا المتنبي. فهؤلاء موتى ضمير، وموتى وطنية. بعضهم يمارس الغطرسة الأمنية، غير عارفٍ – أو عارف! – أنه لو دامت لغيره لما آلت إليه. وبعضهم الآخر يمارس الغطرسة المذهبية والابتزاز الطائفي (الميثاقي) الرخيص، غير عارفٍ – أو عارف! – أنه سينطح المرآة.

الجَمَل لو رأى حدبته، مات. طوبى للذي يرى ويموت. لكن هيهات!

لقد سُدّت السبل السياسية، وهي لم تكن مسدودة. فقد كان في مقدور مجلس النوّاب الكريم أن يضع قانوناً جديداً للانتخاب، لكنه لم يفعل. وقد كان في مقدوره أيضاً، أن ينتخب رئيساً للجمهورية. لكنه لم يفعل. غير أن في مقدور هذا المجلس الكريم – عجباً -، أن يجترح، بقدرة قادر، تأمين النصاب الماكر والمهين والمشين، للتمديد لنفسه مرةً ثانية. أبشع ما في الأمر، وأكثره عهراً، عندما يعتقد النوّاب الكرام، والسياسيون، أنهم يستطيعون أن يضحكوا على ذقوننا ويتذاكوا علينا بالقول إنهم أمّنوا النصاب ولم يصوّتوا، أو إنهم حضروا إلى القاعة العامة ليصوّتوا ضدّ التمديد. الغاية من ذلك، على قولهم، إنقاذ البلاد من الوقوع في الفراغ العميم. نقول لهؤلاء وخصوصاً للذين لم يحضروا ولم يصوّتوا “تعفّفاً”: لقد هرمنا ونحن نكفر بمطامعكم الجشعة المدمّرة، ونشهد على “أوراق التوت” التي “تستر” عوراتكم المخزية. تنادون بالعفّة، لكنكم تفعلون السبعة وذمّتها. أما كان الأجدى لو جعلتم “العفّة” علنية، على رؤوس الأشهاد، وعلى عينكَ يا تاجر، فـ”يشارك” البعض بالنظر، ويتسلّى؟!

لا يقصد هذا المقال التجهيل، ولا التعميم. لكن أهل الطبقة السياسية اللبنانية، أثبتوا في الغالب الأعمّ، أنهم صغار. فكيف يبقى لبنان، وهو دولةٌ يُفترَض أنها اجتُرِحت للكبار، بعدما جعلوه فريسة بين أنياب الصغار؟!

لا أحد يهين المجلس. إنه سيّد نفسه فحسب، وهو يهين نفسه بنفسه. فيا للعار!

                                                                        * * *

أعرف أن الزمن زمن تبديل الأدهار في شؤون الشعوب والأمصار. الأجدى، والأشرف، والأضمن، لو يذهب اللبنانيون جميعهم إلى الأمم المتحدة، ويضعون دولتهم في عهدتها، حفظاً لميثاقها ودستورها و… مصيرها الدولتيّ المجهول، بدل الإيغال في ما يوغلون فيه.

                                                                        * * *

كنتُ في باريس، أتجوّل في معرض الـfiac، عندما شاهدتُ هذا “الكرسيّ”، فصرختُ في أعماقي، كنايةً عن أحوالنا اللبنانية: أإلى هنا تلاحقني أيها العدم؟

لقد أُعجِبتُ فنّياً، بمشهد الفراغ الماحق، في اللوحة – الصورة، وبالهدوء التعبيري الموحش والمطلق الذي يرتّب شجن هذا الفراغ، ويضفي عليه طابعاً من الألفة المريبة.

مسؤولة الغاليري، السيدة ألين لوفيرجون، تنبّهت لفضولي الزائد، فظنّتني “زبوناً” مناسباً للجلوس على كرسيّ كهذا (هل أضيف كلمة “رسميّ” أو “رئاسيّ”؟!)، أو، الأحرى، لشرائه. أخبرتُها بقصة الرئاسة الشاغرة عندنا في لبنان، فما كان منها إلاّ أن أرسلتْ إليَّ صورة الكرسيّ بالبريد الألكتروني، لعلّها تغني عن جوع الدولة اللبنانية إلى رئيس. وها أنا أنشرها، تعميماً للفائدة. لكنْ، على مَن تُلقي مزاميركَ يا داود؟!

                                                                       * * *

فلنسأل الجنرال. أقصد الجنرال شارل ديغول بالطبع. فلنسأله ماذا يقول عن الصغار، وعن كراسي الصغار.

… إذا بقي كرسيٌّ لجلوس الصغار!