يؤكّد معظم الباحثين أنّ النظمَ السلطوية هي سبب الأزمات والنزاعات، ذلك أنها تفتقد إلى الشرعية السياسية، التي تُعتبر من أهمّ أسباب الإستقرار.
على الرغم من التطور التاريخي للديموقراطية وما قدّمته من إنجازات كبيرة على الأصعدة المتعدّدة السياسية والإجتماعية والثقافية والإنسانية، إلّا أنها عجزت عن تحقيق الإستقرار السياسي والأمن الإجتماعي والتقدّم الإقتصادي للكثير من الدول ذات المجتمعات التعدّدية.
ويرى الفيلسوف الألماني «فريدرش هيجل» أنّ الدولة المنسجمة هي التي يسود فيها الإعتراف بحق الإختلاف، ويتمّ حلّ الخلافات فيها بقوة الإقناع أو القانون لا بقوة السلاح.
إنّ اللامساواة الجائرة وأشكال الإكراه المختلفة التي تطاول حالياً فئة من الناس، تتنافى تنافياً صريحاً مع مفهوم الدولة الديموقراطية والعادلة التي تحتضن جميع أبنائها وتعاملهم بالتساوي.
فالديموقراطية لا تعني فقط حكم الشعب لنفسه، بل تعني أيضاً وضْع نظام الدولة الحديثة تحت المراقبة والمشارَكة الشعبيَّتين. وهذا يتمّ بإجراء إنتخابات دورية وفق قانون عصري يراعي صحة تـمثيل كلّ مكوّنات المجتمع، بحيث تصبح العملية السياسية شفافة ونزيهة لا مجال فيها للكذب والتلاعب والخداع.
– إنّ التحدّي الأوّل للعهد يبدأ فـي سنّ قانون إنتخابي يؤمّن التمثيل الصحيح والمناصفة الحقيقية التي حدّدها الدستور، وقد تحدّثنا مراراً عن قانون الإنتخاب، ونكرّر، أنه في غياب الأحزاب العابرة للطوائف، والتي تتنافس على مبادئ وبرامج وتطلّعات، وفي دول ومجتمعات مثل لبنان الذي يعتمد الديموقراطية الطائفية نظاماً سياسياً، وتجرى الإنتخابات فيه ترشيحاً واقتراعاً، بناءً على التوزيع الطائفي والمناطقي للمقاعد النيابية، فإنّ القانون الأفضل والأمثل الذي يتناسب مع تركيبة لبنان الطائفية والمذهبية والثقافية هو «المشروع الأرثوذكسي»، ويليه نظام «الدائرة الفردية» الذي تعتمده أهمّ وأعرق الدول الديموقراطية في العالم مثل فرنسا وإنكلترا والولايات المتحدة والهند ويُطبَّق في أكثر من 65 بلداً في العالم.
– التحدّي الثاني الذي يواجه العهد، فهو الفساد الذي إستشرى وتجذّر في كل مؤسسات الدولة، حتى أصبحت كلفته تناهز الأربع مليارات دولار في السنة. فالفساد لا يقتصر على الرشوة، بل يتعدّاها ليشمل أموراً عديدة، أهمّها: إساءة إستعمال السلطة الرسمية، إستغلال النفوذ، الإبتزاز، الإختلاس، المحسوبية وغيرها.
أما أسباب الفساد فعديدة، ولكن أهمّها: الأوضاع الإقتصادية التي يمرّ بها المجتمع نتيجة الحروب والصراعات، والأوضاع الإجتماعية نتيجة السلوك والعادات، والأوضاع السياسية بسبب ضعف مؤسسات الدولة وضعف تطبيق الأنظمة، وضعف مؤسسات المجتمع المدني، وتغلغل النفوذ المذهبي وتجذّره في كل مفاصل الدولة.
ولا يمكن معالجة هذه الآفة الخطيرة التي تهدّد مجتمعنا إلّا بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب بعيداً عن المحاصصة الطائفية، وتبسيط القوانين والتشريعات والأنظمة، وتفعيل برنامج الحكومة الإلكترونية ووضْعه حيّز التنفيذ ليتمكّن المواطن من متابعة معاملاته في أي مكان على شبكة الإنترنت، وضْع عقوبات وجزاءات رادعة تحدّ من ظهور الفساد، ومكافأة كل من يبلّغ عن حالات الفساد في الوزارات ودوائر الدولة… وأهمّ شيء، تفعيل سلطة القضاء وتحريره من تدخّل أهل السياسة في شؤونه، وإيجاد السبيل لتسريع العدالة، لأن العدالة البطيئة ليست عدالة.
– التحدّي الثالث الذي يواجه العهد، فهو معالجة أزمة النزوح السوري الخطير الذي بات يهدّد الوجود والكيان. ففي غياب الوفاق السياسي بين اللبنانيين، واختلاف النظرة إلى القرار السيادي بين المسؤولين، تحوّلت أزمة النزوح إلى مشكلة كبيرة مستعصية يصعب حلّها إذا لم تتحوّل إلى قضية محورية أساسية بحيث تحتلّ موقع الصدارة في القضايا الوطنية.
فانقسام المجتمع اللبنانـي بين قسم مؤيّد للنظام وقسم مؤيّد للثورة لا يجب أن يمنع الدولة من التعاطي مع أزمة النازحين السوريين من منطلق المسؤولية الوطنية والأخلاقية واتخاذ قرار سياسي واضح في التعامل مع هذه القضية التي باتت تهدّد المجتمع اللبناني بكل فئاته وأطيافه.
لا يجوز أن يبقى لبنان وحده في مواجهة هذه الأزمة الخطيرة. الآن، وبعدما أصبحت دمشق وحمص وحماه واللاذقية وحلب ومعظم المدن تـحت سلطة النظام، فلا يوجد أي مبرّر لبقاء مليون ونصف مليون لاجئ سوري في لبنان، ووجود 300 ألف طالب سوري في مدارسنا، وتحمُّل ولادة 50 ألف طفل سوري كل سنة على أراضينا، فالتوطين السوري سيصبح واقعاً لا مـحال إذا لم تعالج الحكومة الوضع وتواجهه بسرعة وحكمة ومسؤولية وبروح وطنية عالية.
– التحدّي الرابع، وهو في نظري لا يقلّ أهمية عن التحديات الثلاثة الأولى، فهو معالجة الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والمعيشية، وفك عقدة «الموازنة العامة» التي تشكّل المدخل الأساس لحلّ معظم الأزمات الإقتصادية الراهنة، بدءاً بأزمة الكهرباء لما لها من تداعيات إقتصادية واجتماعية كثيرة وما تشكّله من عائق رئيس أمام النمو والقدرة التنافسية.
فالعجز السنوي في هذا القطاع وحده يكلّف الدولة أكثر من 1.6 مليار دولار، أي ما يقارب 20 في المئة من إجمالي وارداتها، مما يستوجب البدء فوراً ببناء معامل جديدة تعتمد على الغاز والشمس والهواء… ولا يوجد أي حلّ سريع لهذه المعضلة الكبيرة ولأزمات السير على الطرق، والنفايات، والمياه، وقطاع الإتصالات… إلّا باعتماد الخصخصة ونظام الـ BOT، والبدء باستدراج عروض الشركات الخاصة ذات السمعة الحسنة والمصداقية الكبيرة والمنتشرة في كل دول العالم.
فالإقتصاد اللبناني والمالية العامة للدولة، وعلى الرغم من صمودهما المدهش خلال السنوات الماضية، يواجهان حالياً مشكلات لا تحصى: إنخفاض معدل النمو الإقتصادي بشكل حاد، البطالة المرتفعة، تراجع الإستثمار الأجنبي، إنخفاض في فائض ميزان المدفوعات بشكل مطرد، وارتفاع خدمة الدين السنوي، وارتفاع العجز في الميزانية، ووصول الدين العام الإجمالي إلى 75 مليار دولار… كل هذه المشكلات يمكن تخطّيها إذا ضبطت الدولة وارداتها وراقبت جيداً نفقاتها وأحسنت في تمويل مشاريع البنية الأساسية من دون المساس بموازنة الدولة، وذلك بمشاركة القطاع الخاص واعتماد نظام الـ BOT، والإسراع في إستثمار ثروات النفط والغاز في المنطقة الإقتصادية البحرية في المياه اللبنانية.
– أما التحدّي الخامس، وهو الأهمّ، فهو توطيد الأمن، وتسليح الجيش بأعتدة حديثة، وتعزيز الإستقرار السياسي الذي يتأمّن باحترام الميثاق والدستور والقوانين من خلال الشراكة الوطنية، وتكريس مبدأ الحياد، وإقامة الدولة القوية والعادلة والقادرة على بسط سلطتها وسيادتها على كل أراضيها، وترسيم الحدود مع سوريا تنفيذاً للقرار 1701، وحلّ مشكلة السلاح خارج القوى الشرعية بالإتفاق مع قيادة «حزب الله»، وتطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة التي أصبحت ضرورة للبنان، لأنها تحقّق الإنماء المتوازن، والوحدة الوطنية، وتعتبر أفضل وسيلة لمواجهة أخطار التشتّت والتقسيم، وتساعد على تدعيم الإستقرار الإجتماعي والسياسي.
الإستحقاقات كثيرة، والتحدّيات كبيرة، ولكن ثقة الشعب وخصوصاً الشباب بهذا العهد كبيرة. لقد سمعت خلال هذين الشهرين المنصرمين كلاماً يثلج القلب ويفرحه: «سينعم لبنان بفترة طويلة من الهدوء والسلام، وستأتيه مساعدات من دول عدة، فإذا لم يستطع هذا العهد ورئيسه العماد ميشال عون وضع الوطن على سكة الخلاص والإستقرار والإزدهار، فلن يستطيع أحد ذلك».
* باحث وكاتب سياسي