بدا الرئيس سعد الحريري في مقابلته التلفزيونية الأخيرة وكأنه «الميثاقي الأول» في لبنان، فمن ناحية الشكل والمضمون قدم خطاباً وطنياً جامعاً، ومؤسساتياً، ظهر فيه وكأنه يغرد وحيداً في غابة من الحسابات الطائفية، التي تجاوزت مبدأ التمسك بالدولة، في مشهد يذكر بمرحلة ما قبل العام 2005، حيث كانت الوصاية السورية تتحكم بإدارة التوازنات بين الطوائف وتوظفها في مشروع ترسيخ سيطرتها على البلد كياناً وجماعات ومؤسسات.
هذه المواقف التي أطلقها الحريري، شكلت امتداداً لمشروع الرئيس رفيق الحريري، الذي اغتيل للأسباب نفسها وما زال الحريري الإبن مؤمناً بها، وهو الذي قرّر سلوك الطريق الصعب في مواجهة مشروع «حزب الله»، هذا الطريق الذي يرتكز على سياسة النفس الطويل في المواجهة السلمية، وفي قطع الطريق على أيّ استدراج لحمل السلاح في مواجهة هذا المشروع، وبالتالي يمكن توقع مدى وعورة هذه الرحلة، التي انطلقت عام 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري، واستمرت وسط موجات العنف والفوضى والاغتيال، من السابع من أيار، الى إسقاط حكومة انتخابات 2009، الى اليوم الذي تتجدّد فيه المواجهة، بعدما تشعبت، وباتت على مستوى العالم العربي.
هذه الميثاقية الراسخة في وجدان الحريري، وهذا النموذج الذي يطرحه كتصوّرٍ وحيد وممكن لمستقبل لبنان، اصطدم وسيصطدم أكثر، بقوة «حزب الله» أي قوة المخالب، التي بات الحزب يعلنها كاستراتيجية عنف من دون قفازات، وكأداة إقليمية لا تخبئ وظيفتها الأصلية، كامتدادٍ لمشروع إيران الذي يصوّب هدفه نحو مزيد من العواصم العربية، وخصوصاً بيروت، مع ما تعنيه للنفوذ الايراني الذي يرى فيها، موطئ القدم الأساس لمشروع إيران في المنطقة، ليست فقط لأنها، الارض الآمنة لأوّل ذراع ايراني منتج في المنطقة، بل لأنها باتت غرفة عمليات لإدارة هذا النفوذ، في سوريا والعراق والبحرين واليمن، مع ما تعنيه هذه الإدارة، من مترتبات سلبية، بدأت نتائجها تظهر، مع أوّل اصطدام إيراني ـ سعودي فعلي في المنطقة.
من هنا يمكن تصوّر المهمة الشاقة للحريري، كما يمكن استنتاج طبيعة المرحلة المقبلة التي لن تسمح باستعمال الأدوات القديمة في هذه المواجهة، خصوصاً منها التي جُرّبت وثبت فشلها، على مرّ السنوات العشر الماضية.
على الصعيد الداخلي يمكن قول كثير من الكلام حول طريقة إدارة هذه المواجهة، فالحوار الثنائي الشيعي ـ السنّي، أثبت أنه بات غطاءً لسياسة الحزب، وعبئاً على تيار «المستقبل»، وعلى علاقاته العربية خصوصاً مع المملكة العربية السعودية، التي باتت تتصرّف على أساس أنّ هناك مسؤوليات لبنانية لم يتحملها أصحابها، وأنّ هناك مداراة لـ«حزب الله» بداعي الخوف، لم يعد مجدياً اللجوء اليها كلّ مرة لتفادي التهديد، فيما المطلوب، المواجهة بسلاح الموقف الواضح، والرؤية البعيدة المدى، والصلابة في رفض ما يجب أن يُرفض، والقبول بما يمكن القبول به، ولا تبتعد قضية ميشال سماحة عن كونها أحد الامثلة على ذلك.
وبما خصّ الاستمرار في الحكومة، فهي مسألة ينطبق عليها ما ينطبق على الحوار، إذ ما الجدوى من استمرار تقديم الغطاء لـ»حزب الله»، المستمرّ في سياساته القادرة على تعقيد ما تبقى للبنان من علاقات عربية ودولية.
إنّ «أحزمة الأمان الثلاثة»، باتت تشدّ على عنق «المستقبل»، وقوى 14 آذار، في وقت يلعب الحزب على المسرح بأمان، أما أحزمة الأمان الحقيقية، التي أنتجتها ثورة الاستقلال، واغتيال الرئيس رفيق الحريري، فيُجرى استنزافها، بترشيحٍ رئاسي من هنا وآخر من هناك، على وقع تشتت لا يمكن أن يستفيد منه إلّا مشروع «حزب الله» .