تماماً كما هي حال الحرب السورية التي لا يرى المراقبون في افقها المسدود أي دلائل قط تعد بحل لها في المستقبل المنظور فإن الازمة اللبنانية تراوح مكانها من دون أن تجد مخرجاً، وكأنهما توأمان مرتبطان ارتباطاً عضوياً لا يمكن الفصل بينهما. فكل المؤشرات وجميع الظواهر وما يتوفر لدينا من تحليلات تقودنا الى هذا الاستنتاج المرير. فلو عدنا بالذاكرة وهذا بالتأكيد ضرورة ملزمة لجميع اللبنانيين الى الوراء قليلاً واستعدنا شريط الوقائع التي بدأت ثم تدافعت منذ عام 2011 لوصلنا حتماً الى هذا الاستنتاج اياه. يومها باسم الميثاقية التي يسهل الترويج لها الآن جرى الاطاحة بحكومة الرئيس سعد الحريري الوفاقية. ذلك لأن مؤشرات الوضع السوري الداخلي المأزوم كانت تشي بأن سوريا مقبلة على أحداث جسام فلا بد والحالة هذه من التخلص في سدة الحكم من اولئك الاصدقاء الأكثر تعاطفاً مع الحراك الشعبي السوري ومطالبه العادلة. يومها صدرت الأوامر بضرورة ادخال الوطن الصغير التوأم التاريخي بسوريا في غياهب الدهليز الحالك للأزمة. فحزب الله بموقعه المميز لدى النظام الملالي الايراني كان يمتلك المعلومات والمعطيات التي تتيح له استشراف مستقبل الوضع السوري وما يترتب عليه القيام به ميدانياً في حال تعرض النظام الاسدي لمخاطر السقوط.
يومها راحت تواكب الأزمة في بداياتها مفردات سياسية لبنانية أسدية الطعم والمذاق. فكانت طرفة النأي بالنفس التي جرى العبث بها في اروقة الجامعة العربية في الوقت الذي كان فيه حزب الله يتورط اكثر فأكثر في النزاع الداخلي السوري حتى وصل به الأمر في اللحظة التاريخية الراهنة لحد القتال في ريف ادلب وشوارع حلب. ويأخذ الصراع الداخلي السوري منحى مذهبياً مقيتاً ليستولد من رحمه فعيلاً ظلامياً مخيفاً نما في ضفاف الفرات العراقية (داعش) حيث كان الاميركي يحزم أمتعته العسكرية كي يتحول العراق الى محمية ايرانية.
هذا ويتواكب الاهتراء الداخلي العراقي مع حرب اهلية سورية قلما شهد التاريخ الحديث مثيلاً لها، في ظل ازمة لبنانية تطاول جميع المؤسسات الدستورية السياسية فأصبح لبنان بلا رئيس للجمهورية وببرلمان معطل وبحكومة عاجزة. وتضرب الأزمة الاقتصادية المعيشية الوطن الصغير في ظل تدفق هائل من النازحين السوريين، على ايقاع حرب اعلامية معادية للعرب يقودها حزب الله، اولئك العرب الخليجيين ممن نحن بحاجة ماسة اليهم ابتداء بفرص العمل هناك وما يمثله لبنان بالنسبة لهم، فهو الجامعة والمستشفى والمنتجعات السياحية. اقفرت الفنادق وأغلقت المطاعم ابوابها والمقاهي وتعطل وسط العاصمة.
من سياسة التعطيل إلى استكمال السيطرة على لبنان. فأن يتم الاستحقاق الرئاسي أو لا يتم، وأن ينعقد البرلمان من دون جدوى أو لا ينعقد، وأن تجتمع الحكومة أو لا تجتمع، وأن يحتدم السجال بشأن آلية اجتماعات الحكومة وصلاحيات رئيسها… كل ذلك تفاصيل ثانوية، وأن تنعقد طاولة الحوار أو تعلّق اجتماعاتها، فهذا ليس بالأهمية التي يحظى بها القتال الدائر في سوريا الذي ستحدد نتائجه مستقبل الوضع اللبناني. إن هذا الهاجس الباعث على القلق الشديد لم يعد حكراً على حزب الله فحسب بل على ما يبدو قد أصبح حالة عامة طاولت الكثير من اللبنانيين.
يميل الكثيرون للاعتقاد بأن قيادة حزب الله عندنا قد أصبحت على يقين أن الجنرال عون في المعطى الراهن وفي ظل الوضع الإقليمي كما تراه، لا يملك أي حظوظ جدية بالوصول إلى سدة الرئاسة داخل البرلمان، ذلك لأنه لا يحظى بتأييد أي من الكتل النيابية الوازنة: كتلة المستقبل وكتلة الرئيس بري ولا من اللقاء الديموقراطي بزعامة النائب جنبلاط ولا الكتائب اللبنانية، إلا أن حزب الله يحرص على صورته في بعض الأوساط المسيحية بوجه خطر «داعش« و«النصرة« بعد الاعتداءات التي جرت في البقاع أخيراً، لذا عمد السيد حسن نصرالله إلى عرض مشروع اتفاق خارج البرلمان مع الرئيس سعد الحريري ما سمي بـ»السلّة»، إلا أن هذا العرض لم يلق تجاوباً لأنه يحمل في طياته خرقاً فاضحاً لدور البرلمان كمؤسسة دستورية ومنزلقاً خطيراً يؤدي في نهاية الأمر إلى المزيد من التشقق في صفوف قوى 14 آذار وتكريساً لانقلاب حزب الله لإحكام قبضته على لبنان.
من جهة أخرى، فإن للجنرال عون تاريخاً طويلاً مشوباً بعلامات الاستفهام حول علاقاته بالنظام السوري عندما خلع عليه بشار الأسد أثناء زيارته لسوريا لقب بطريرك العرب. ولطالما حوّل الجنرال عون إطلالته الصحافية الأسبوعية إلى منبر للشتائم والاتهامات الجارحة بحق قوى 14 آذار ذهب فيها كل مذهب لدرجة أنه لم يوفر الشهيد رفيق الحريري نفسه.
إنه هو الذي كان أول من سلّم قرار الحرب والسلم لحزب الله في لبنان من خلال ورقة التفاهم في مطلع شباط عام 2006، وهذا بالضبط ما جرى بعد شهور عندما أدخلت سياسة حزب الله لبنان في حرب ضارية مع إسرائيل كانت نتائجها العملية صدور القرار الدولي 1701 واستقدام قوات الطوارئ الدولية للفصل بين الجنوب وإسرائيل. بل كان من نتائج هذه السياسة المغامرة ان استدار سلاح حزب الله نحو الداخل اللبناني فجرى احتلال وسط العاصمة بيروت لشهور طوال (2008) وما لبث مقاتلو الحزب ان اجتاحوا في 7 ايار عام 2008 بيروت الغربية وصولاً الى مناطق الشحار ومدينة صيدا، فكان بذلك يضع لبنان على شفا الحرب الأهلية، فكانت هدنة الدوحة (2008) وترحيل الازمة بضع سنوات.
ان الحديث عن الميثاقية واثارة مشاعر الغبن والظلم لدى المسيحيين كما يردد الوزير جبران باسيل وقد اصبح وريثاً لزعامة التيار العوني يغفل عن قصد، روح دستور الطائف ونصوصه التي كرست المناصفة في البرلمان بين المسيحيين والمسلمين والتي من خلالها انبثق مجلس مدينة بيروت التناصفي بصرف النظر عن تفوق عدد الناخبين المسلمين حيث كان الفضل في ذلك للرئيس سعد الحريري بالذات.
«دستورية لكن غير ميثاقية» بهذه العبارة جرى نعت حكومة الرئيس السنيورة في نهاية عام 2006 وطيلة الشهور التي خضع خلالها وسط العاصمة لمنطق فرض الأمر الواقع بقوة السلاح، يوم استقال منها جميع الوزراء الشيعة، وقد تكرر المشهد ذاته كما اسلفنا مع الرئيس سعد الحريري عام 2011، فحزب الله ماض في مشروعه.
ان ميثاق العيش المشترك هو مكمل وبند من بنود الدستور وليس الدستور بأكمله، فلنكن واقعيين ولنصارح انفسنا بالحقيقة عارية مجردة كما هي: ان استخدام الميثاقية كمخلب قط لفرض الجنرال عون بقوة سلاح حزب الله رئيساً للجمهورية من خارج البرلمان هو خرق فاضح للدستور كما ان تحريض المسيحيين بل محاولة تعطيل الحكومة والانسحاب من الحوار وممارسة سياسة الابتزاز والتهديد بالنزول الى الشارع لجر البلاد باسرها الى اتون الاقتتال الداخلي هو مغامرة من طراز جديد، لا يستثيغها كثيراً حزب الله بالذات وذلك لانهماكه الكلي في الحرب السورية والذي يعتقد ان بقاء لبنان في الوضع البائس الرديء كما هو عليه الان لافضل بكثير من توزيع قواه وقواته على جبهتين، ما دامت مصالحه مؤملة وخطوطه اللوجستية تعمل بانتظام.
فليبادر «الحزب» الى تقديم النصح بالتعقل الى حلفائه النزقين الذين ما زالوا مصرين على قراءة الواقع بصورة مغلوطة وهو ان مرشحهم قد فاته القطار.