IMLebanon

أيها التغييريون ألم يحن الأوان للإقلاع عن التفاهات والتركيز على جوهر الأمور؟

 

مضى على بدء ولاية المجلس النيابي الكريم أشهرٌ عدة، ولم نلحظ في أداء أولئك النواب الذين يطلقون على أنفسِهم تسمية النواب التغييرين سوى ما يوحي بافتقارهم للحد الأدنى من مُقتضيات التَّغيير.

أقول ما قلت، بمثابةِ مُكاشفةٍ صريحة وواضحة، وقد اعتدت منذ صغري على قول الحقائق كما هي، ودأبت على مُصارحة الرأي العام بقناعاتي، ومواقفي وانتقاداتي لكل ما أراه خطأ أو صواب. وهذا ما دفع ببعض الأصدقاء والقرّاء لاستيضاحي عن الجهة السياسية التي أنتمي إليها أو أؤيدها، وقد صعب عليهم تحديد موقف لي يوحي بأني أقرب إلى أحد المعسكرين السياسيين الحاليين في لبنان، عنيت بذلك ٨ و١٤ آذار، وها أنا أكرر الإجابة بأني لست محسوبا أو مُتعاطفاً مع أي منهما، ذلك لأني أرى أن كليهما خطائين وغير معصومين من الخطأ، بل تبادلا الإساءة للوطن والشعب عن علم أو من دونه، ولم يُقصِّرا أبدا في الإضرارِ بمصالحنا الوطنية، ولكوني أنظر لخياراتهم ومواقفهم كباحث وناقد بعينين واعيتين، وقلم مُتجرِّدٍ غير ممالِق، مُتسلِّحا بمناقبيتي العسكرية التي تُملي علي التَّصرفَ والحُكم على الأُمور من خلفية الانتماء الوطني، وتغليب المصلحة العامَّةِ وجعلها فوق أيَّةِ اعتبارات فئوية أو شخصية داخليَّةِ كانت أم خارجية. لذا تُراني لا أخفي امتعاضي من أي أداء هابط وغير مسؤول، أو من أي توجُّه لا ينم عن ولاء وطني، ولا أخفي عتبي ولومي لاصحاب المواقفِ غير المسؤولة، وإن كان بعضٌ ممن انتقدُهم لا يستسيغون انتقاداتي، ولا أرى ضيرا في ذلك، طالما بقيت مواقفي منسجمة مع الأدبيات التي تنبع من صدق مشاعري الوطنية المنسجمة مع روحية انتمائي للوطني الذي نشأت فيه وعملت من أجلهِ ولم أزل أحمل همومه وشُجونه. ومن هذا المنطلق يأتي انتقادي اليوم لأداء من اصطُلحَ على تسميتهم بالنواب التغييرين.

للأسف يبدو أن بعضا بل مُعظم الذين فازوا بالانتخابات النيابيَّة بترشُّحِهِم على متن لوائحَ حَملت ظاهِريَّاً أسماء توحي بنهجٍ تغييري، قد خَدعوا الكَثيرين من النَّاخبين أو على الأقل خَذلوهُم بأدائهِم ومواقِفِهم السَّطحيَّةِ وغير المَسؤولَة، وأنا من الناخبين الذين خُذلوا بهذا الأداء، ولذلك أكتفي اليومَ بالقولِ أن أداءَهم لا يوحي بنزعَةٍ تغييريَّةٍ إصلاحِيَّةٍ تَحديثيَّة، إنما بتفاهاتٍ صِبيانِيَّةٍ، أبعد ما تكون عن خِصال ومُمارساتِ المُشرِّعين.

لا أُخفي عليكم أنني كنت من أول المُدافعين عن بعض النواب الجدد ومنهم النائب زرازير، والتي لا أعرفها، وكتبتُ مقالاً عندما اشتكت من تنمُّرٍ ذكوري مورس عليها داخل حرم مجلس النواب، وكذلك الأمر بالنسبة للنائب بولا يعقوبيان، إذ لم أخفي ازدرائي للكيفيَّةِ المُحتَقَرَةِ التي كان يتعامَلُ فيها بعض النُّوابِ مع زملائهم، إن كان في معرض قيامهم بواجباتهم النيابية، أو خِلالَ جَلساتِ التَّحاورِ على شاشات الفَضائيَّات، والتي يستدل منها حَقارَةُ المُتطاولِ وضَعفِ شَخصِيَّةٍ لدى الكثير ممن يَزعمون أنَّهُم صُقورٌ تَغييريون، والأنكى من ذلك أن المُصيبَةُ التي نُعاني منها نحن من اقترع لهؤلاء النُّوابِ أَعظم من ذلك بكثير، لأننا نَشعُرُ جراء بعضِ سُلوكياتِهِم ومواقِفِهم السِّياسِيَّة بالخِزيِ والإحباط، وكأننا تَعرضنا لخِيانَة، أو غُرِّرَ بنا لجَهلنا بمؤهلاتِ ومزايا من أوكلناهم لتمثيلنا في النَّدوةِ البرلمانيَّة.

أقول ذلك ليس من باب التَّشفي والتَّعرُّض بالشَّخصي لأيٍّ منهم، إنما لفتاً للانتباه من مَغبَّةِ استمرارِهم على ذات المنوال، وتبنّي خياراتٍ غير مدروسة. وهنا لا بُدَّ لي من التذكير بما سبق وناديت به عشيَّةَ تَشكيلِ لوائحِ المُرَشَّحينَ في وجه لوائحِ السُّلطَة، ولم أتوان حينها عن دعوةِ الزُّملاءِ المُرشَّحين المُعارضين وكنت من بينهم لضرورَةِ الاحتِكامِ إلى مَعاييرَ مُتجَرِّدَة، يُصارُ على أساسِها غَربَلَةُ أسماء المُرشحين، تمهيداً للخروج بتبنّي لائحةٍ تغييرية – إصلاحيَّة واحدةِ على مًستوى كل دائرة انتخابيَّة، ولكن هذا الطرح لم يلقَ قبولاً لدى العضِ رَغم اقتراحي لآلياتٍ عدَّة لتنفيذه، ويُعزى ذلك لنَزعاتٍ أنانِيَّةٍ وصولِيَّةِ لدى العديد منهم، ما دفعني حينها للعُزوفِ عن السَّير في الترشح، ورفضي الإنضمام لاية لائحة، ما لم تتوحَّد القِوى التَّغييريَّةُ في لائحَةٍ، على نحوٍ  يمكِّنُ قوى التغيير بمقاربةِ الانتِخاباتِ  بتبنّي ترشيحِ ١٢٨ مُرشَّحاً، بمُعدلِ مُرشحٍ واحِدٍ لكل مَقعد نيابي، كما تبنّي برنامَجٍ انتخابيٍّ متكاملٍ وموحَّد لكل المُرشَّحين التَّغييريين، وهذا ما لم يَحصل أيضاً، حتى على مُستوى الدائرة الرابِعَةِ في جبل لبنان أي الشُّوف وعاليه حيثُ كنتُ مُرشَّحاً.

لست وحدي من يَشعُرُ اليوم بالمرارة، بل كل ناخِبٍ تَغييري -إصلاحِي حُر، وربما كل مواطنٍ شريفٍ وصادق، يُتابِعُ نَشاطاتِ ومواقِفِ وسُلوكِيَّات النواب التَّغييريين. أما مآخذنا فكثيرةٌ تعزى لكثرة الأخطاء التي ارتكبها ويرتكبُها أولئك النواب، والتي كنا نختلقُ التَّبريراتِ لها، باعتبارها هفوات غير مقصودة، ونابعةٌ عن قلةِ خِبرة في الشأن السياسي، ولحداثَةِ وجودِهِم في الندوةِ البرلمانيَّة، أما وقد استَفحلت كبواتُهُم وكثُرت أخطاؤهم والتي وصل بعضها لحد الخطايا التي لا تُغتفر ولم يعد من الجائز السكوت عنها. وسأكتفي بالإشارَةِ إلى بعضِها:

أولا: التهاؤهم (النواب التغييرين) بظواهِرِ الأمور لا بجوهَرِها، وكأن جُلَّ مُبتغاهم الظُّهور بأنَّهم نوابٌ مشاكسون مناكفون، يصعب ترويضُهم كباقي النواب المنضوين في أحد معسكري ٨ و١٤ آذار، وذلك عملا بمبدأ خالف تُعرف.

ثانيا: اتخاذهم أو تبنّيهم لمواقف نافرَةٍ مُنفِّرَة تجاه أمورٍ تافِهة لا إجماعَ عليها، أو على الأقل لا تزال مرفوضة لدى الغالبية في بيئتنا الشرق-أوسطية، كالمغالاة في تبنّي التشريعات التي تسوَّقُ على أنها ضامنة لحُقوق المثليين ومن لف لفهم، وهي في الحقيقةِ انتهاكٌ صارخٌ لأدبيَّاتِ المجتمع.

ثالثا: البُعد عن الواقعيَّة في الكثير من مواقفهم التي يطلقونها ارتجاليا حيالَ عدد من المسائل المطروحة، وإن كانت ليست على قدر من الأهمية، وإغفالُهُم لحراجة الأوضاع التي يمرّ بها لبنان ومعاناة اللبنانيين، واكتفاؤهم في غالبية الأحيان بالتعبير عن رفض ما هو مطروح، من دون عرض بدائل مجدية، مُقنعة وقابلةٍ للتنفيذ.

خامسا: حالة الإرباك التي يُصابون بها عند حلول أو اقتراب آجال الاستحقاقاتِ الوطنيَّةِ الهامَّةِ والمصيريَّة وتخبُّطُهم في مواقف مُتناقِضة، لعدمِ تحضيرهم المُسبقُ لآليَّاتِ مُقاربتِها.

سادسا: محاولتُهم تشكيلِ تكتل نيابي على غِرار التكتلات التقليديَّة، والانفرادِ بمواقِفَ وخيارات يعلمون مسبقا أنه من شبه المُستحيلات تسويقها وإقناع باقي الكتل بالسير باقي بها، بدلا من سعيهم لطرح ما يمكن إقراره وتحقيقُه، ما جعلهم كمن يُغرِّدُ خارج الزمان والمكان.

ثامنا: الفوضوية في إطلاق المواقف غير المنسقة في ما بينهم، الأمرُ الذي أفقدهم المصداقيَّة، وقدرتهم على التماسك وتوحيد الموقف حيال المسائل المطروحة كما تجاه الخياراتِ التي يتبنونها.

تاسعا: السَّطحية في مُقاربة الكثير من الأمور الجوهرية: للأسف لم نشهد لغاية اليوم، ومنذ بداية ولاية المجلس الحالي أيا منهم يتبنّى موقفاً على قدر المُستجداتِ والأزماتِ التي تعصُف بلبنان، ولا حتى بما يحاكي اهتمامات المواطنين، وهذا أدّى إلى الاستخفاف بهم علانيةً وتجاهلِ مواقفهم ومُداخلاتهم حتى داخلَ أروقَةِ المجلس.

عاشرا: افتقادُهم للقُدرة على التمييز بين ما هو مهم والأُمور الثانويَّة، من ذلك امتناعُ بعضهم أو تخلُّفِه عن حضور الاجتماع الذي دعى إليه سماحة مفتي الجمهورية، والذي خَلُصَ إلى إعلان مواقف وطنية على قدر كبير من الأهمية، وتركيزُهم على قضايا تافِهَة لمُجرَّد أن بعض الجمعيات الأهلية الممولة من الخارج تُسوِّقُ لها، وربما لإشغالِ الرأي العام بأمور جانبيَّة، لا تحاكي اهتمامات اللبنانيين الغارقين في لجِّ أزماتٍ مَصيريَّة كيانيَّة ومعيشية.

لقد كان أجدى بمُنتحلي صفة «نواب تغييريين» التركيز على الأمور الأساسية التي تهمُ ناخبيهم، والابتعاد عن إثارة أمور خلافِيَّة، نحن في لبنان بغنى عن إثارَتِها في ظِلِّ أوضاعنا المأزومَة وانقِساماتِنا الحادَّة.

وكان حريٌ بهم التركيز على الجانب التشريعي من مهامهم، وتشكيل ورش عمل لإعداد مشاريع قوانين إصلاحيَّة، لأن التشريع يبقى الإطار الأمثل لاي إصلاح حقيقي فاعل ومُستدام، وبدلا من التظاهُرِ باقتِحامِ فُروعِ المَصارِفِ وتأييد مُقتحميها، ألم يكن من الأَجدى لو أنهم تقدموا باقتراحِ قانون لحِمايَةِ أموالِ المودعين، بَدلا من الاقتِحامات الاستعراضيَّة المُربكَةِ للجميعِ والمُدمِّرَةِ للقِطاعِ المَصرفي.

ولكم كانوا قاربوا مُسمَّاهُم (تغييريين)، لو أنهم بادروا إلى تقديم اقتراحات قوانين، بغرضِ الحد من الانهيار، ومُكافَحَةِ تَهريب المَواد المَدعومَة، والتَّهرُّبِ الجُمركي والضَّريبي، أو لِمَنع تَسريب ثَرواتِ الفاسِدين المُلوثَةِ إلى الخارج، ألا تستحقُّ هذه المسألةُ تشكيلَ لجنةٍ برلمانيَّة للوقوف على كيفية تهريبِ هذه الأموال وتَسبُّب هذا التَّسريب بأزمَةٍ نقديَّة ومصرِفيَّةِ وماليَّة.

ولما لم يبادرُ عشرة منهم وتقديمِ اقتراح قانون يقضي بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية لتقصي حقائق عملية تبديد احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة، وكيفية هدر المال العام وكشف الضالعين فيها، وكذلك تبيان الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى انهيار القيمة الشرائية للعملة الوطنية؟

وهل من مانع يحول دون تقديمهم اقتراح قانون يحول دون فرار الضالعين بجرائم فساد أو تهريب أموالهم، المشكوك بمشروعية مصادرها، الى الخارج؟ بمن فيهم من سهل تهريب تلك الأموال؟

وما يمنعُهم أيضا عن تقديم اقتراح قانون يقضي بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية ذات طابع قضائي لإجراء تحقيق مُتكامِلٍ يَكشُفُ مُلابساتِ جريمة تفجير مرفأ بيروت، وتحديد المسؤولين سياسياً وقضائيَّاً عنها تَمهيداً لمُحاسبَتِهم وإنزالِ العِقابِ المناسب بحق كُلٍّ منهم؟ أليس ذلك أجدى من البُكاءِ على الأطلال؟

وما هي الموانع التي تحول دون تقديمهم اقتراحات قوانين لتفسير بعض النصوص الدستورية التي اعتُمِدَت وتُعتمدُ ستارا لتَعطيلِ الكثير من الاستِحقاقات الدستورية، وفي طليعتها انتخاب رئيس للجمهورية، منعا من التماهي في تأويلها على خلاف مقاصد المُشرع.

وما يمنعهم من تقديمهم لاقتراحِ قانون يفسر المواد ٦٠ و٧٠ و٧١ من الدستور التي تحدد المرجع الصالح لملاحقة رئيس الجمهورية والرؤساء والوزراء عند ارتكابهم جرائم، وكل ما من شأنه تبيان متى تكون الجرائم التي يرتكبونها منسوبة لوظائفهم أم بمثابة جرائم عادية، أو تنطوي على خرقٍ للدستور أو خيانة عظمى.

بكل تجرّد نقول إن أداء من يطلقون على أنفسهم لقب نواب تغييريين لم يرتقوا بأدائهم بعد حتى إلى حدود المقاربات النيابية التقليدية، إذ لم نلحظ في سلوكياتهم ومواقفهم وأساليب مقاربتهم للمسائل المطروحة سوى ملهاة، ومحاولة التمظهر بعنترياتٍ وهميَّة سخيفةٍ ومفضوحة، وستكون عبارةُ «ما خلونا» شعارهم في الانتِخاباتِ القادمة.

وأخلص بنصيحة نصوحة بوجوب الارتقاء بسلوكياتهم ومواقفهم إلى مصاف السلوكيات الرزينة والمسؤولة، ومحاولة الاقتداء بالسَّمكةِ لا بالدجاجة، بمعنى أن يسعوا لجعلِ أفعالِهم تتفوقُ على أقوالِهم لا العكس. وأخيرا ليس لنا سوى التضرع إلى الله بأن يُجيرُنا من نوائبِ بعض النائباتِ وتفاهاتِ بعضِ النُّوابِ التَّغييريين.