“التغيير” من المصطلحات التي كَثُر استعمالها فوق اللزوم، فأدّى فائض الاستعمال إلى نقص في المدلول، وإلى ضبابية تضيّق مساحة النظر في ما يمكن اجتراحه من أفعال وشقّه من مسارات. المشكلة تبدأ من أن “التغيير” بحدّ ذاته، هو سنّة الحياة، و”لا ينتظر جميلة أحد”. كل شيء يتبدّل ويتحوّل، بأشكال مختلفة وإيقاعات متفاوتة، كما أن التغيير البطيء يمكنه أن يُحدِث تبديلاً أعمق من تغيير فجائي وصاخب، يظهر لاحقاً أنه جرت المبالغة في توقّع ما يمكنه أن يحمله معه من تحويل للواقع والمشهد.
في كل موسم انتخابي يُساق مصطلح التغيير وما يرادفه ويتفيّأ بظلّه من شعارات تحديث وعصرنة وتمكين وتمدين وتنظيف وشفافية. وبعد كل موسم انتخابي يظهر كم أن التركيبة القائمة محلياً “عصيّة على التغيير” إلى حدّ كبير، علماً أن هذا العصيان هو بالنتيجة شكل من أشكال التغيير أيضاً، تغيير لا يسير بالضرورة نحو الأفضل، بقدر ما أنه يذكّرنا أكثر فأكثر بأن مشكلات أجّلناها منذ عقود، تتعلّق بالتركيبة ككل والتوازنات القائمة فيها، والمؤسسات وشروط صيانتها، والقانون وما ينبغي فعله كي يبسط سيادة الاحتكام إليه بين الناس، يداً بيد مع إعادة إنتاج معاني السيادة الوطنية بكافة مندرجاتها، وليس أقلّها احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي، وعدم إتاحة الدولة لأي سلاح خارج عن هذه المنظومة التترّس بها وأخذها رهينة في الوقت عينه، بل وجوب البحث بدلاً من ذلك عن “تسوية تاريخية” في إطار العمل على استصلاح السيادة والمؤسسات، وليس في إطار العمل على تقويض ما بقي منها.
كلّما فرغنا من استحقاق نيابي، نجد الفرقاء جميعاً، كل من موقعه وبالمقدار الذي يمكنه تحصيله، وهو يسحب شعاراتية التغيير من خطابه بعض الشيء ويستبدلها بخطاب “إبقاء القديم على قدمه طالما أن الظروف الموضوعية للتغيير” لم تنضج بعد. وهكذا، نعود إلى مربّع التخيير إياه، بين إبقاء القديم على قديمه وبين الذهاب إلى المجهول، أو أقلّه، المراوحة في التعطيل والفراغ والمماطلة والانتظار والتشنّجات المتقابلة. وبعد هذا يُستبقى في كل مرة شيء من الشعارات التحديثية التغييرية إنما ليس قبل تفريغها من معظم مضامينها، وبما من شأنه أن يولّد مضاعفات سلبية ومحبطة في الكثير من الأحيان.
ليس هناك نظام سياسي في العالم لا يحتاج إلى صيانة عند كل عتبة ومنعطف. التغيير حين يُطرح في السياسة يتعلّق بهذا الامر. إما صيانة دورية للنظام السياسي، وإما تطويره بإدخال إصلاحات لتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية وتوطيد الطابع الدستوري لمؤسساته أكثر فأكثر، وإما اعتباره نظاماً لم يعد قابلاً للصيانة ولا بد من البحث عن آخر. المفارقة اللبنانية أن مشكلة النظام السياسي ليست مشكلة إنجاز صيانة، أو اعتماد الإصلاحات بداعي الصيانة، أو البحث عن نظام بديل بداعي الإخفاق في الصيانة، أو استحالتها. المشكلة عندنا ليست الصيانة، ومقدارها أو عدمها. بل هي ليست تماماً مشكلة نظام انتهى وينبغي البحث عن بديل. أي بديل يمكن تخيّله سيعود علينا بنفس المشكلة. المشكلة تكمن في إعطاء معنى للأشياء القائمة يمتّ إليها بذي صلة. أن يكون البرلمان برلماناً وليس حكومة، وأن تكون الحكومة حكومة وليس برلماناً مصغّراً، وأن تكون السيادة للدولة وليس لمجموعات داخل هذه الدولة، فهذا كله موجود على الورق، معاد مكرّر في الخطاب، لكن الجميع يعرف ايضاً أن واقع الحال غير ذلك. ومن أكثر ما هو ضائع منذ فترة مفهوم المعارضة في هذا السياق. الكل يريد أن يحكم ويعارض في نفس الوقت. مبنى النظام السياسي التعددي الدستوري الحديث أن يتم الفرز من يحكم ومن يعارض. وفي الديموقراطية البرلمانية، الأكثرية المنتخبة تحكم، والأقلية المنتخبة تعارض. هذه أمور أساسية لكنه لا يمكن اختزالها بإشكالية “تطبيقها” أو عدم تطبيقها. حتى أفضل نصّ دستوري ممكن تخيّله لن يضمن بنفسه تطبيقها. ليس هناك دستور في العالم يمكنه أن يُقنع الناس، وبالأخص القوى السياسية النافذة، بأن فئة تحكم وفئة تعارض ثم يجري التداول على السلطة بينهما، استحقاقاً انتخابياً تلو استحقاق. القدرة على التحايل على النصوص، قبل الحرب وبعدها، في ظل الوصاية وبعدها، هي قدرة يمكنها التحايل على اي نصّ.
ليست المشكلة إذاً مشكلة صيانة. إنها مشكلة إيجاد معنى للأشياء، وجعل المصطلحات التي نستخدمها لتمييز هذه الأشياء عن بعضها البعض ذات معنى. غياب ثنائية حكم ومعارضة لصالح استشراء أنماط التهجين والتخليط بين ما هو حاكم وبين ما هو معارض، ليس إلا الشكل الأمضى لمشكلة تغييب المعنى.
لأجل ذلك، كل ما يُطرح من عناوين تحديثية، مع التئام المجلس النيابي الجديد والتأليف الحكومي، من دون التفكير في سبل إعادة إعطاء معنى للحكم وموالاته من جهة وللمعارضات وما يجمعها من جهة أخرى، يُطرح بشكل محدود التأثير، هذا إن ذهبنا بعيداً في التفاؤل. الحاجة إلى إعادة إيجاد حكومة تحكم ومعارضة تعارض ليست إشكالية ثانوية، بل هي أكثر من ضرورية.