IMLebanon

مفتاح التغيير…مسيحي

 

خياران لبنانيان لا ثالث لهما: إستمرار الستاتيكو الراهن إلى ما شاء الله مع كلّ تداعياته وسلبياته على الوضع السياسي والأمني والاقتصادي، أو إعادة تحريك الوضع الداخلي باتّجاه «انتظام واستمرار عمل المؤسسات الدستورية»، كما جاء في جلسة الحوار الأخيرة.

المسيحيون هم الأكثر تضرّراً من الستاتيكو الراهن. صحيح أنّ الجميع ينعم بالاستقرار، ولكنّ الفراغ الرئاسي يُبعدهم عن المشاركة في صناعة القرار الوطني. وصحيح أنّ لبنان محيَّد ولو نسبياً عن الأزمات المتفجّرة والساخنة، ولكنّ غياب الحياة السياسية والدستورية يَحرمهم من إقرار مشاريع قوانين حيوية من قبيل قانون الانتخاب واستعادة الجنسية، ومن الاستفادة من وضع مثالي فحواه الحوار الإسلامي-الإسلامي والمسيحي-المسيحي.

ولكنّ الستاتيكو الراهن يبقى عمَلياً أفضل الممكن في غياب الحلول للتعقيدات السياسية التي لا يمكن تحميلها للمسلمين، بقدر ما أنّ المرحلة تتطلب قراءةً موضوعية وهادئة لما يمكن تحقيقه ويستحيل تحقيقه، ربطاً بالمعطيات الدولية وتحديداً الإقليمية، ومن دون التقليل من بعض الأخطاء في التقدير والتحليل والرؤية والتخمين والتموضع السياسي والتحالفات الوطنية…

فيستطيع الدكتور سمير جعجع أن يتمسّك بترشيحه ويحجز موقفَ فريقه معه، ولكنّ الظروف الإقليمية والمحَلّية لا تسمح بوصوله. ويستطيع أيضاً العماد عون أن يتمسّك بترشيحه إلى ما لا نهاية، ولكن بعد سَنة تقريباً على الفراغ الرئاسي، وبعد التحوّل الكبير في المشهد الإقليمي، أصبحَ من الواضح أنّ حظوظ عون الرئاسية تراجعَت وتضاءلت، وما كان ممكناً بالأمس بات صعباً اليوم.

فالصورة الإقليمية تبدّلت منذ «عاصفة الحزم» التي مكّنَت السعودية من الإمساك بالمبادرة السياسية على مستوى المنطقة التي انتقلت من الأحادية إلى الثنائية. وهذا في المشهد العام، وأمّا في التفاصيل فتتّجه الأمور في اليمن إلى إخراج النفوذ الإيراني وقيام تسوية برعاية سعودية، فيما تشهد سوريا تقدّماً كبيراً للمعارضة، وما بينهما العراق رسا على توازن لمصلحة خصوم طهران، وفي لبنان ما زالت أولوية «حزب الله» استمرار شراكته الأمنية مع «المستقبل» في الحكومة والحوار لمواجهة المتطرّفين والتفرّغ للقتال السوري.

وانطلاقاً ممّا تقدّمَ، لم يعُد الرهان على تطوّرات إقليمية حازمة بعد «عاصفة الحزم» في محلّه، لأنّ التوازن في المشهد بات سيّد الموقف، تجنّباً للقول بأنّه اصبح طابشاً لمصلحة «الحزم». والانتقال إلى مرحلة التسويات للأزمات في المنطقة ليس أكيداً بأنّه بات قريباً.

وعلى رغم أنّ كلّ الاحتمالات تبقى واردة، ولكن التجربة دلّت إلى أنّ أحداً ليس على عجَلة من أمره، بل الجميع يريد تركَ الأمور تستوي على نار خفيفة، وقد بدأت تنضج فعلاً دولياً وإقليميا وسوريّاً، إنّما يصعب التحكّم بتوقيت الأمور وتحديد المواعيد للمرحلة الجديدة التي قد تمتدّ سنوات، خصوصاً أنّ الطرفَ العربي الذي كان قلقاً أصبح اليوم منشرحاً وممسِكاً بالمفاصل السياسية، وبالتالي عامل الوقت تحوّل إلى عنصر ضاغط على الطرَف الآخر.

وتأسيساً على هذا الواقع الإقليمي المستجد الذي لا بدّ مِن أن يفرز معادلة لا غالب ولا مغلوب لبنانيا، ولأنّ تموضعَ عون الوسطي لم يلقَ الصدى المطلوب سنّياً وعربياً، ولأنّ كسرَ التوازن السنّي-الشيعي بالانتخابات الرئاسية ولو من باب التمثيل المسيحي مستحيل، خصوصاً في هذه المرحلة، وتلافياً للحظة الدولية-الإقليمية التي ستفرض على الجميع الذهاب نحو تسوية وطنية مرحلية على غرار الدوحة أم دائمة على غرار الطائف، وتجعل المسيحيين أحد اللاعبين، فيما الفرصة متاحة أمامهم اليوم للعبِ الدور الأكبر على هذا المستوى، ولأنّ الوقت يجري ضد المسيحيين وتحديداً العماد عون، فإنّ مبادرة «الجنرال» إلى الدعوة لاجتماع للقيادات الأربعة في بكركي من أجل وضع تصوّر لمخرج متكامل يقدّم للمسلمين، سنّةً وشيعة ودروزاً، يشكّل الفرصة الأخيرة للبنَنةِ الأزمة الداخلية وإعادة المسيحيين إلى دورهم كشرَكاء أساسيين في المعادلة الوطنية.

وهذه المبادرة، في حال اعتمادِها، تتيح لعون تحقيقَ مكسَبين أساسيّين: الأوّل معنوي بأنّه استخدَم مفتاحَ الحلّ الذي يُعيد انتظام العمل المؤسساتي ويعزّز الدور المسيحي، والثاني عمَلي من خلال التسمية في الرئاسة وفي قيادة الجيش والحكومة، فيما الانتظار سيُفقِد المسيحيون، كلّ المسيحيين، فرصةَ العودة بقوّة إلى الشراكة السياسية، وبالتالي لا بدّ من أن يقدِّم المسيحيون اقتراحَ-اتفاقَ سلّة متكاملة، أي «باكيدج ديل» رباعي: رئاسة وحكومة وقانون انتخاب وقيادة جيش.

وفي هذا الرباعي يكون للمسيحيّين الكلمة الفصل في الرئاسة وقيادة الجيش، والتأثير الوازن في قانون الانتخاب، والتمثيل الصحيح في الحكومة. والتقاطهم لهذه الفرصة يفتح الباب أمام مرحلة وطنية-مسيحية جديدة، إنْ من أجل تحسين ظروف مشاركتِهم وشراكتهم، أو بغية التحصّن من أيّ مؤتمر تأسيسي محتمَل.

ولا شكّ في أنّ هناك مجموعة عوامل مساعدة لإنتاج تسوية من هذا النوع، أبرزُها عدم وجود ممانعة من «حزب الله» و»المستقبل»، بمعزل عمّا إذا كان مردّ غياب هذه الممانعة إلى الإحراج نتيجة تحالفات الطرفين مع المسيحيين، أم إلى وجود قناعة بضرورة الوصول إلى تفاهم مسيحي ينتج تفاهماً وطنياً.

ولكن في مطلق الأحوال كلّ المؤشّرات تدلّ إلى استحالة إيجاد تسوية للملف الرئاسي من دون صدمة سياسية إيجابية يقدِم عليها الجنرال عون، وأن تكون مقرونةً باتفاق-سلّة يُخرج لبنان من حالة التعطيل الدستورية، ويَضعه على رصيف الانتظار الآمن لما سترسو عليه التطوّرات الإقليمية، ويبدّد الشكوى المسيحية من الغُبن السياسي.

وفي الخلاصة يمكن استنتاج الآتي:

أوّلاً، لا أحد يستطيع الوقوف في مواجهة تسوية دولية-إقليمية-محلّية عندما يحين أوانها، وهذا ما حصلَ في اتفاق الطائف ومن ثمّ في اتّفاق الدوحة، وبالتالي الفرصة متاحة جدّياً لإعادة انتظام الحياة الدستورية التي تحصّن الاستقرار السياسي بانتظار التسوية التي ستُرسِّم حدود النفوذ الإيراني ومن ضمنِها سلاح «حزب الله ودوره الإقليمي.

ثانياً، لا يمكن الخروج من الستاتيكو الحالي إلّا بمبادرة عونية-مسيحية متكاملة، وذلك لسببَين: لأنّ الوضع الدولي-الإقليمي لا يُعير أيّ أهمّية لتسوية مرحلية في لبنان، فيما أولويتُه تنحصر بالحفاظ على الاستقرار. والسبب الثاني عائد لكون العقدة مسيحية، ولأنّ القوى الإسلامية لن تعيقَ تفاهماً مسيحياً موضوعياً يؤدّي إلى انفراج وطني.

ثالثاً، لا حلولَ جزئية رئاسية أو عسكرية على قاعدة المتداول اليوم. فعلى طريقة المثل الشائع «لو بدّا تشَتّي غيّمِت»، وبالتالي الحلّ الوحيد يكمن في الخروج من عنق الزجاجة بمبادرة ذاتية تحقّق مكاسب شخصية-مسيحية-وطنية، وذلك قبل فوات الأوان وخروج المبادرة من الإطار المحلّي إلى الإطار الخارجي.