حالة الانهيار الرسمي والمعيشي ظهرت بأبشع صورها، أواخر الأسبوع الماضي، بثلاثة مشاهد متفاوتة، ولكنها تؤشر إلى حجم العجز الرسمي في إدارة مسلسل الأزمات المتشابكة.
المشهد الأول، اقتصر على مجموعة تكهنات وتحليلات حول اقتراب رحيل حكومة المستشارين واللجان والاجتماعات من دون التوصل إلى اتخاذ القرارات. اهتزّت فرائص الوزراء، وسارع رئيسهم إلى شن حملة عنيفة على معارضي اليوم، حكّام الأمس الذين يتهمهم، كلما دق الكوز بالجرة، بتحمّل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع المالية اليوم.
ورغم أن الطبخة الوزارية الجديدة ما زالت قيد التحضير والنقاشات في مطبخي عين التينة وبيت الوسط، إلا أن موجة سريعة من التفاؤل وبوادر الارتياح سادت الأوساط الاقتصادية والمالية، التي بدا وكأنها تنتظر ساعة رحيل حكومة دياب بفارغ الصبر.
أجواء التفاؤل التي جسّدت المشهد الثاني، انعكست بسرعة قياسية على سعر صرف الدولار، الذي تراجع نحو ٣٠ بالمئة خلال ساعات، وانخفض من عشرة آلاف ليرة إلى سبعة آلاف، بقدرة قادر، ومن دون حصول أي تطور إيجابي، سواء بالنسبة لخطوات الحكومة باتجاه الإصلاحات المالية، أو إحراز أي تقدم على صعيد المفاوضات المتعثرة مع صندوق النقد الدولي.
ولكن هذا الانخفاض السريع في صرف العملة الخضراء، طرح عدة تساؤلات مشروعة:
– هل مجرد إطلاق إشاعة قرب رحيل الحكومة، قَلَب معايير سوق الصرف رأساً على عقب؟ وهل بلغ الضيق الاقتصادي والمالي والشعبي بحكومة دياب حد التعلق بحبال التغيير، الذي ما زال في عالم الغيب حتى الآن؟
– هل حصل «تغيّر ما» في تكتيك المتلاعبين بأسعار الصرف، قضى باتخاذ خطوة مؤقتة إلى الوراء، بعد اشتداد الضغوط الشعبية والتجارية عليهم، على أن تعود الأسعار إلى الاشتعال من جديد، لحصد الأرباح الحرام، على إيقاع تأخر التوافقات السياسية على صيغة التأليف، وبرنامج العمل؟
وإذا كانت خطوة التراجع جدية، هل سيستمر الانخفاض حتى يصل سعر الصرف إلى المستوى المعتمد يومياً على المنصة الإلكترونية للبنك المركزي؟
لماذا اعتبر رئيس الحكومة وعدد من الوزراء أن الارتفاع المطرد لسعر صرف الدولار، كان بهدف الضغط على الحكومة، وتأزيم الأحوال المعيشية بوتيرة متسارعة، تمهيداً للإطاحة بالحكومة على إيقاع غضب الشارع، على النحو الذي حصل مع الرئيس عمر كرامي مطلع التسعينيات؟
الواقع أن تطورات الأيام القليلة المقبلة ستحمل الإجابات الواقعية على مثل هذه التساؤلات، خاصة بعد أن يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود في المفاوضات الناشطة في عين التينة وبيت الوسط حول تفاصيل الحكومة العتيدة!
أما المشهد الثالث، والأكثر مأساوية على الإطلاق، فقد جسّدته حوادث الانتحار الأربعة في بيروت والهرمل والجنوب، لآباء عجزوا عن تأمين لقمة العيش الشريف لأولادهم، في هذا الاختناق الاقتصادي في البلد، وتفشي البطالة والفقر بمنسوب غير مسبوق في لبنان، منذ مائة عام، في ظل غياب الدولة ومؤسساتها عن متابعة آلام الناس ومعاناتهم في الحصول على قوت عيالهم، والتلهي بالاجتماعات الفارغة والحرتقات الخرقاء.
أما الكلام عن دعم ما سُمّي بـ«السلة الغذائية» فما زال كلام بكلام، مثل طواحين الهواء، حيث أسعار الخبز زادت، وبقرار رسمي من الوزير الألمعي، نحو ٣٣ بالمئة، وما زالت أسعار المواد الأساسية تسجل ارتفاعات شبه يومية، من دون رقيب أو حسيب، ومن دون معرفة أموال الدعم أين تُصرف، ومَن المستفيد منها.
أما المساعدات المالية النقدية التي قدّمتها الحكومة، وبعض البلديات، فلم يُعرف مصيرها بعد، خاصة بعد اللغط الذي أثير في العديد من الأوساط حول المعايير التي تم اعتمادها لتحديد مستوى المستفيدين.
سيسجّل التاريخ وقائع هذه الأيام السوداء، وما يُعانيه اللبنانيون من العوز والفقر، في ظل حكم مُكابر ومُعاند، لا يُجيد غير سياسة الإنكار للهروب من الأزمة المصيرية التي تعصف بالبلد، وتهدد مصير الأجيال القادمة، ويُحاول التستر على عجزه برمي المسؤولية على غيره، والتنصل من فساد السنوات الأخيرة، الذي فاق كل ما سبقه من جشع ووقاحة في نهب الأموال العامة.
هل تغيير الحكومة فقط يُخرج البلد من محنته، أم أن المطلوب هو تغيير الذهنية المكيافيلية المهيمنة على المنظومة السياسية الفاسدة؟