تعود الفاشية إلى أوروبا. يصنعها هذه المرة الإحيائيون الإسلاميون. الغرب بدوره يستفز المسلمين. يصير هؤلاء موضوعاً للغرب الذي يميّز بين متطرفين لا يستحقون البقاء، ومعتدلين يُعاد تشكيلهم. الغرب يقرر مصير المسلمين الذين سوف يخضعون لمراقبة أكثر بكثير مما يخضع لها الغربيون. في «القرية» المعولمة الجديدة لا ينتصر المسلمون، ينتصر الأقوى.
لسنا في معركة تحرر وطني تتطلب أقصى درجات التعبئة والتضامن. كان الأجدر أن نعتبر أنفسنا في مرحلة بناء مجتمع جديد. تخلينا عن هذه المهمة. الغرب اعتدي عليه. صحيح أن المعتدين مواطنون فرنسيون، لكن بعضنا هنا، وهم كثر، زجوا أنوفهم في عملية تبرير الاعتداء، وكأننا معنيون بالأمر. سوف يثأر الغرب، وإسرائيل أقحمت نفسها في الأمر.
الإحيائيون الإسلاميون يخوضون حرباً. وسائلهم الإيديولوجية من الماضي؛ أو هكذا يتخيلون، فالصياغة سلفية رجعية. رسائلهم المادية مستوردة من الغرب. ربما استطاعوا اختراق هذه الشبكة العنكبوتية أو غيرها. لكن من اخترعها هو الأقدر على حمايتها. نحن لا نخترع شيئاً جديداً. نعيد اجترار الماضي. وفي كل مرة نعلن انتصارنا على الغرب يكون ذلك في صيغة أننا منعناه من تحقيق أهدافه. لا نعرف أهدافه، كما لا نعرف مجتمعنا. ونتجاهل أن التطور المقارن طويل المدى يشير إلى أن الغرب يزداد ازدهاراً، وبلادنا تزداد تصحراً، مادياً وفكرياً. يتراجع لدينا الإنتاج ويتكاثر الفقر والبطالة والهجرة. حتى النفط، الذي نخاله ثروة، يتحكم به من يستخرجه لا البلدان التي يستخرج منها. وما زلنا نبرر تأخرنا.
بعد تفجيرات 11 أيلول، 2001، فرض الغرب تغيير البرامج التعليمية في عدد من البلدان العربية والإسلامية. هم يعيدون تشكيل الإسلام، يكتبون تاريخه من جديد، يعيدون تشكيل مجتمعه؛ ومن الطبيعي أن تكون النتائج في صالح التبعية.
يعتقد البعض أن التبعية هي في إجبارنا على أن نتخلى عن قيمنا وأن نتبنى قيمهم لنصير مثلهم. في القرن التاسع عشر عبر مثقفونا، الفقهاء وغيرهم، عن الرغبة في أن نصير مثلهم (نقتبس منهم ما يفيدنا). لكننا مع توفر «ثروات» النفط صرنا مثلهم بالاستهلاك فقط لا بالإنتاج؛ توسعت الصحراء، وما عدنا إلى البداوة بل كانت السلفية هي الشكل الأنسب. تخلينا عن صنع المستقبل. السلفية تعني السكن في الماضي، الحقيقي أو المتخيل. ما بنينا أنظمة سياسية تشكل دولاً تكون كل منها وعاء للمجتمع. فصلت السياسة عن المجتمع، وكان الاستبداد عمومي الانتشار. واخترعنا التبريرات لذلك. وعندما جاءت ثورة 2011 فإنها صودرت لصالح دول سلفية. بالطبع يمكن وضع الملامة على الحكام كما فعلنا عام 1948، وخسرنا فلسطين. لكننا لم ننظر نقدياً إلى مجتمعنا.
يدفع الإحيائيون الإسلاميون مجتمعاتنا إلى مواجهة (مع الغرب) لا نعرف أهدافها، وإذا عرفناها فإنه يتوجب رفضها ونبذها. هي كلها انحراف عن المهمة الأساسية في بناء المجتمع والدولة واستعادة السياسة. يعتبر الإحيائيون أن مهمتهم غزو الغرب لإركاعه. إذا كان هذا هو الهدف فهناك استحالة في تحقيقه. سوف يكون أحد الارتدادات تدمير بلد عربي أو إسلامي، وربما بلدان عدة. التاريخ يعيد نفسه بأشكال أكثر مأساوية.
في الأيام الماضية سمعنا صرخات كثيرة، في وسائل الإعلام عندنا، تدين الغرب وخاصة فرنسا بسبب الاستهانة بمقدساتنا. الاستهانة غير مبررة. لكن اللاعقلاني هو أن تبدو احتجاجاتنا وكأنها تبرير «لغزوة» باريس. طفولية ثقافية لا تقل خطراً عن الطفوليات اليسارية السابقة. مزايدات ثقافية لا تختلف في جوهرها عن المزايدات السياسية. وكلها تجر إلى هزائم متشابهة في نتائجها.
يتطور الغرب، بنا أو من دوننا. له مسار مختلف. نحن اخترنا ذلك. ما نحتاجه ليس الدفع لتغيير الغرب بل لتغيير ما بأنفسنا. حتى الكتاب المقدس نسيناه.
لا يستطيع أحد إهانتك إذا أنت لم تهن نفسك. نهين أنفسنا عندما ننظر إلى مجتمعنا ولا نرى فيه إلا أخطاء الغرب. عندما ننتقد النظام العالمي، وهذا أمر مبرر، فإننا يجب أن نرى أنفسنا الجزء الأكثر تأخراً والأكثر تخلفاً فيه. والمعالجة تبدأ برفض التبرير للمغامرين، أولاً، والنظر إلى أنفسنا بعين نقدية، ثانياً.