إنه أسبوع «داعشي» بامتياز في أكثر من موقع واتجاه.
من مدينة الموصل في العراق كانت البداية عندما أعلن البغدادي خلافته على «الدولة الإسلامية». ومن الموصل ذاتها كانت «النهاية»، هذا إذا صدقت المعلومات التي توافرت خلال الساعات القليلة الماضية.
عندما اعتلى أبوبكر البغدادي منصة المسجد معلناً مبايعة نفسه خليفة على «الداعشيين»، تراءى كأننا أمام مسرحية تلفزيونية عن حقبة من حقبات العصر الجاهلي. ومن الموصل كان «الإقلاع النضالي»! وفيها قضي على خلافته المزعومة.
ومع بداية عصر «الجاهلية الجديد» الذي خيم على سورية والعراق كانت الأسئلة تتزاحم: من هم أعضاءَ داعش؟ ومن يمولهم؟ هذا حتى بروز «الحالة القطرية» إلى العلن، وتوجيه المملكة العربية السعودية والإمارات المتحدة والبحرين ومصر التهم الواضحة والمحددة في مجال تمويل الإرهاب.
والمثير ان الولايات المتحدة كانت على علم بذلك، لا بل تعاونت مع قطر في مجال تمويل بعض الجماعات الإرهابية، وتسعى إدارة الرئيس دونالد ترامب الظهور بمظهر الوسيط الساعي إلى «رأب الصدع»! في حين ان تسلسل الأحداث يستوجب محاكمة الولايات المتحدة بتهمة كتم المعلومات، والتواطؤ مع داعمي وممولي الحركات الإرهابية التي أقضت مضاجع العالم العربي من محيطه إلى خليجه.
وبانتظار ما تسفر عنه الأحداث في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، نخصص هذا المقال لبعض الدراسات والتقارير المعدة من جانب «دارسين أميركيين» في شؤون «الشرق الأوسط». وللتعرف إلى ما يفكر به الأميركيون في هذا الجزء المهم من العالم.
نشرت مجلة القوات المسلحة الأميركية تقريراً خطيراً كتبه رالف بيترز وهو كولونيل سابق في الجيش وخدم في شعبة الاستخبارات العسكرية أيضاً، وتفرغ للكتابة والنشر بعد تقاعده، يتحدث فيه عن عملية تغيير معالم دول الشرق الأوسط من الناحية الجغرافية، تنشأ عبرها دول جديدة، وتنقسم دول أخرى، وتتغير معالم دول، وتندمج دول أخرى.
ويعرض التقرير خرائط للمنطقة في شكلها الحالي، وخرائط للشكل الذي يتم العمل على تحقيقه، ويعتمد التقرير لتسويغ هذا المخطط على عدد من الحجج المنطقية الجدلية، منها:
أولاً: ان الحدود الحالية حدود رسمتها كل من بريطانيا وفرنسا في شكل عشوائي في القرن التاسع عشر، فهي حدود غير عادلة.
ثانياً: ان قوس الحدود الأكثر تشابكاً وفوضوية في العالم يكمن في إفريقيا والشرق الأوسط، وهذه الحدود تعمل على إثارة الحروب والموت في هذه المنطقة، لذلك يجب تغييرها وإعادة رسمها لإعطاء الأقليات المذهبية أو القومية والإثنية حقوقها المسلوبة.
ثالثاً: صحيح أنه في بعض الحالات، قد تتفاهم مجموعات مختلفة متعددة الأعراق أو الديانات والإثنيات بحيث تتعايش ويتداخل بعضها ببعض، لكن الغالب ان التداخل بالدم أو المعتقد في أماكن أخرى قد لا يكون ناجحاً بقدر الاتحاد الذي يحصل داخل المجموعة الواحدة، لذلك لا بد من إجراءَ هذا التغيير في الخريطة.
رابعاً: الحدود المرسومة للدول ليست ثابتة على الإطلاق والعديد من الحدود من الكونغو إلى القوقاز مروراً بكوسوفو يتغير الآن، ومن هنا، لا يجب التجاوب مع الحجة القائلة إن حدود هذه الدول لا يجب تغييرها، لأنها تعّبر عن واقع موجود منذ آلاف السنين، وإن الحفاظ عليها تتطلب تحمل ضريبة المشاكل التي تحصل فيها.
خامساً: ان حدود الشرق الأوسط تسبب خللاً وظيفياً داخل الدولة نفسها، وبين الدول في ما بينها، بخاصة من خلال الممارسات ضد الأقليات، أو بسبب التطرف الديني أو القومي والمذهبي، ولذلك يجب إنهاء هذا الأمر.
ويدعي التقرير أن الغاية من هذا التعديل تحقيق عدد من الأهداف الإنسانية والتي تتعلق بالعدل والديموقراطية والتوازن وأهداف أخرى رئيسة هي:
أولاً: إنهاء الظلم الذي يعانيه عدد من الأقليات في الشرق الأوسط ومنها: الأكراد، البلوش، والشيعة العرب. وعلى رغم أن التعديلات المرتقبة تأخذ في الاعتبار مصالح هذه الفئات، فإن هذه التعديلات قد لا تستطيع تحقيق مصالح أقليات أخرى مثل: المسيحين، البهائيين، الإسماعيليين، النقشبنديين، وعدد من الأقليات الأصغر.
ثانياً: محاربة الإرهاب في شكل كامل بواسطة القوات الأميركية المتمركزة في المنطقة وحلفائها من الدول المحلية أو العالمية.
ثالثاً: تأمين تدفق النفط في شكل تام وكامل للغرب من دون قيود.
رابعاً: تحقيـق السلام الكامل عبـر إحـداث تعــديلات في الحـدود الجيـو- سياسية للدول الموجودة حالياً في الشرق الأوسط، ونشر الديموقراطية.
ويمرر التقرير في ثناياه عدداً من النقاط التي قد يمر القارئ عليها مرور الكرام، لكنها خطيرة جداً في مضمونها ومعناها، منها:
أولاً: الترويج إلى أن هذا التغيير لمصلحة الجميع، بخاصة أنه، وعلى عكس ما قامت به فرنسا وبريطانيا، يراعي مصالح القوميات والإثنيات والمذاهب والمجموعات المختلفة المنتشرة في المنطقة حالياً، لأنه قائم على أساس وقائع ديموغرافية تشمل الأقليات.
ثانياً: إن هذا التغيير في الحدود وتعديلها لإيجاد شرق أوسط جديد، لا يمكن أن يتم بسهولة وسرعة، لأن إعادة تصحيح الحدود الدولية تتطلب توافقاً لإرادات الشعوب، ما قد يكون مستحيلاً في الوقت الراهن، ولضيق الوقت فإنه لا بد من سفك الدماء للوصول إلى هذه الغاية واستغلال عامل الوقت لمصلحة هذه اللحظة.
استناداً لما تم ذكره، فإن دولاً جديدة ستنشأ، ما يعني فقدان بعض الدول الموجودة أجزاء كبيرة من حدودها الحالية وزيادة حدود دول أخرى.
الدولة الكردية: تقتضي الخطة المذكورة إقامة دولة كردية مستقلة للأكراد البالغ عددهم ما بين 27-36 مليون كردي يعيشون في مناطق متجاورة في الشرق الأوسط، فالأكراد أكبر قومية في العالم لا تعيش في دولة مستقلة، ويجب تحقيق دولتهم المستقلة عبر عدد من الخطوات، منها:
أولاً: استغلال الفرصة التاريخية التي لاحت للولايات المتحدة بعد سقوط بغداد بإنشاء دولة كردية إثر تقسيم العراق إلى ثلاث دول، لأن الأكراد سيصوتون بنسبة 100 في المئة لمصلحة دولة مستقلة إذا عُرضت عليهم الفرصة.
ثانياً: دعم أكراد تركيا على رغم أن هجماتهم في الداخل خفّت خلال العشر سنوات الماضية، إلا أنهم عادوا من جديد الآن، وعليه يجب استغلال هذه الفرصة للضغط على تركيا، وإظهار الجزء الشرقي منها كـ «منطقة محتلة».
ثالثاً: بعد قيام الدولة الكردية المستقلة في العراق وتركيا، فإن اكراد إيران وسورية سينضمون بمناطقهم مباشرة إليها وسيشكلون «دولة كردستان الكبرى المستقلة» بحدودها النهائية، وستكون هذه الدولة الممتدة من ديار بكر في تركيا إلى تبريز في إيران أكبر حليف للغرب في المنطقة بين اليابان وبلغاريا.
الجمهورية الإيرانية: صحيح أنه سيتم اقتسام بعض أجزاء إيران لمصلحة دول كردية وشيعية عربية وبلوشية وجزء صغير يُضم لدولة أذربيجان، إلا أنه سيتم اقتطاع جزء من أفغانستان لتشكيل دولة قومية فارسية تحل محل الجمهورية الإيرانية الحالية.
أفغانستان وباكستان: القسم الذي سيتم اقتطاعه من أفغانستان لمنحه لإيران سيتم تعويضه عبر منح أفغانستان جزءاً كبيراً من باكستان حيث العديد من القبائل الأفغانية والقريبة لها، وسيتم اقتطاع جزء آخر أيضاً من باكستان حيث يقيم البلوش لمنحه لدولة بلوشستان الحرة، وبذلك تتبقى مساحة ثلث أو أقل من حجم باكستان الحالية التي تشكل الدولة الجديدة المنتظرة.
لذلك وكما نرى فإن إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط سيتم على أساس قومي أو إثني في بعض الأحيان وطائفي في أحيان أخرى، وبما أن ذلك انعكاس لإرادة الناس والفئات فإنه لا يمكن أن يتم فوراً حتى لو أردوا ذلك، إلا أنه مع الوقت، ومع عملية سفك الدماء وفقاً للتقرير فإن تحقيق هذه الخريطة الجديدة سيكون ممكنًا جداً.
أما بالنسبة إلى إسرائيل ووفقاً للتقرير، فلكي تمتلك أي أمل بالحياة بسلام مع جيرانها فسيكون عليها الانسحاب من كل المناطق التي احتلتها في 1967، مع ضرورة إجراء تعديلات محلية تواكب القلق الأمني الذي يساورها في شكل دائم.
وعلى العموم فإن الإستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة يمكن تلمس معالمها من خلال الأدوار التي لعبتها أميركا في أفغانستان والعراق، والأدوار التي تلعبها مؤخراً بمساعدة أوروبا في عدد من الملفات، سواء في سورية أو لبنان أو فلسطين أو مصر أو الخليج العربي وتركيا.
وبطبيعة الحال فإن الدول التي تحويها القائمة الأميركية في هذا المجال هي الأكثر تنوعاً وتمازجاً مثل: العراق، أفغانستان، السودان، الجزائر، لبنان إلخ…، وذلك لإعادة صياغة الواقع العرقي والطائفي والقومي وفق تركيبة تناسب المخططات الأميركية التي تهدف إلى تحقيق أهداف منها: إضعاف الدولة القومية، ضمان عدم التحام هذه الأقليات وضمان عدم ذوبانها أو على الأقل انسجامها مع الغالبية في أي من بلدان الشرق الأوسط.
والهدف أيضاً من ورقة الأقليات هو تسويغ وجود إسرائيل وتوسيع رقعة المشاكل والنزاعات الإقليمية لإشغال العالم العربي والإسلامي بالمشاكل الداخلية المستجدة والأخطار التي تتهدد بلدانهم، والهدف أيضاً إفساح المجال أمامها للدخول والتغلغل في هذه الدول، لأن الدولة المدمرة أو المفتتة سيكون من السهل على إسرائيل اختراقها كما حدث في جنوب السودان.
انتهى نص التقرير… وبما انه اتضح الوضع في العراق إلى حد كبير فما هي الخطوات التالية بالنسبة إلى الإدارة الأميركية؟
وبعد…
لقد سقط «داعش»، أو هكذا يبدو، لكن ماذا عن «الداعشية»؟