لا يقارن الحراك المدني بالحراك السياسي في لبنان. الأول متهم بالأمل، الثاني فضيحة متنقلة. ما بين الاثنين، هوة لا تردم، وانتماءان متضادان. المدني ينتمي إلى المستقبل والسياسي منسحب إلى الماضي.
أولو الأمر في لبنان، لا طاقة لهم على احتمال بصيص. هم أهل اختصاص بارتكاب الفشل عمداً يفلحون في التقيد بخارطة طريق تفضي إلى عدم بناء الدولة. هذا البناء ليس من اختصاصهم. الدولة القوية معادية لهم. قوة الدولة متأتية من التقيد الصارم بالدستور والقوانين والمؤسسات واستقلال القضاء وممارسة المساءلة والمحاسبة.
أولو الأمر، يصدرون الأوامر للدولة فتطيعهم أجهزتها، بمعزل عن القوانين. لا ينفذون أوامر الدولة. هم يريدونها خادمة لهم. ولقد فعلوها. وهذه الخادمة تدر عليهم منافع ومصالح وقوة، وتؤبد نفوذهم وفسادهم. يعرفون كل شاردة وواردة ويعترفون بصفاقة، بأن مصير «البلد» معروف سلفاً: إنه باقٍ على ما هو عليه. وهذه الإقامة البائسة أفضل من المجهول.
كان أولو الأمر مطمئنين إلى نزاعاتهم وحواراتهم وتحالفاتهم. لا يملّون انتظار نتائج الدم المسفوك في الإقليم… إلى أن ظهر أمل في «حراك» غير مسبوق. حراك ليس من جنس الطوائف ولا على سنة المذاهب ولا على ذمة الأحزاب والتيارات والقيادات المزمنة، الموروثة والمتوارثة. حراك قادم من مجهول مكتظّ بالقهر والإذلال وانعدام الأفق.
من حق أولي الأمر أن يخافوا هذا المجهول وأن يخشوا من أمل موهوب بابتداع الوسائل وقياس الخطوات وسلمية المواجهات، لانتزاع حقوق مزمنة، تربّعت «الطبقة» على اغتصابها منذ عقود.
الحراك متَّهم بالأمل. وهذا خطر على جيل عاقر اليأس زمناً، وآثر الاستقالة والسلامة. لذا، استقبله أولو الأمر بمَكر. ادَّعوا احتضانه لخنقه. أيّدوه مع و «لكن» كبيرة وشائكة ومشبوهة… لم يستسلم «الحراك» لـ «حنان» أولي الأمر وأدواتهم. ثابر على استقلال صعب، في بلد الانقسام السهل. ولأنه كذلك، استعجلوا هزيمته. روّجوا كذباً وبهتاناً. أسرعوا إلى حصاره بالأسئلة المشينة والاتهامية: «مَن أنتم؟»، «ماذا تريدون؟»، «مَن خلفكم؟»، «ما هي استراتيجيتكم؟»، «من أين لكم هذا؟»… اختلقوا لهم سِيَراً ذاتية للتشكيك في نظافة انتمائهم ونضالهم. أطلقوا عليهم نعوتاً ليست صفات فيهم. ولما فشلوا، استدرجوهم إلى العنف النظامي والعنف العشوائي والعنف البديل و«القضاء» المبرَم عسكرياً… تفوّقوا على الجميع سلماً.
من حق أولي الأمر في لبنان أن يخشوا الفضيحة، لاعتصامهم المزمن في مربَّعات الفساد، وأن يدافعوا بقوة خشنة وألفاظ سوقية عن دعائم «الدولة المهزومة» بأيديهم وبأفعالهم، خوفاً من الدولة المدنية الموعودة، ولو بعد زمن ومشقة نضال.
الذين تناوبوا على حكم لبنان. اختاروا «المزرعة» على بناء الدولة. حدث ذلك في بداية الاستقلال. عبد الحميد كرامي، ثاني رئيس حكومة بعد رياض الصلح، استقال بعدما اكتشف أن «الطبقة السياسية» آنذاك، ممثلة بآباء الاستقلال وأبنائه وإخوته وأصهرته وحاشيته، حوّلت المؤسسات العامة إلى أملاك سياسية خاصة… حضرت العائلية والطائفية وغابت الأنظمة والقوانين. طلب كرامي من بشارة الخوري تسريح الإدارة التابعة، لتأسيس إدارة مستقلة عن أصحاب النفوذ… رفض الشيخ بشارة، استقال كرامي، وعاث «السلطان سليم» وأشباهه وورثته فساداً. وفي لبنان اليوم، سلاطين جدد، بعدد «أولي الأمر». ليس صحيحاً أن لبنان كان دولة ثم صار مزرعة. منذ التأسيس، لم يكن دولة. ولا مرة كان دولة. نبالغ إذا قلنا إن فؤاد شهاب صنع دولة. الصحّ، أنه حاول بناء دولة على قياس قادة لبنان، وعامة لبنان أيضاً. لكنه فشل. أفشلته «الطبقة». طبقة «أكَلَة الجبنة»، ثم نحَرَتْه «الطبقة العسكرية المخابراتية».
العلة كيانية، لا يمكن بناء دولة بأدوات غير دولتية أو دون دولتية. الجماعات اللبنانية لم تقتنع بلبنان بحدود «سايكس ـ بيكو». وحدهم سكان المتصرفية قبلوه. الشيعة رفضوه، ولم يصبحوا من رعاياه، إلا بعد التنكيل بهم من قبل عسكر الانتداب، وبعد هزيمة الملك فيصل في الشام. قبلوه بقوة القمع وليس بقوة الإقناع ولم يصبحوا أبناء دولة معترف بهم عن جدّ، إلا في ستينيات القرن الماضي… السنة التحقوا بلبنان بعدما هُزمت «الكتلة الوطنية» في سوريا وأذيقت الأمرّين، احتلالاً وتنكيلاً. أُقنعت بحصة لها في لبنان. دشن العام 1936، وفاة «مؤتمر الساحل» ولبننة السنة. وتُرجم هذا القبول بالميثاق الوطني و «الصيغة».
هذه الصيغة القائمة على المحاصصة، أو المشاركة، ليس بمقدورها أن تنشئ دولة، في منطقة تتداخل فيها السياسات والولاءات والتحالفات العابرة للحدود والدستور والكيان…
هو «بيت بمنازل كثيرة»، أو، هو دولة بدويلات عديدة، أو، هو شعب بجماعات متنامية ومبرمة. لبنان هو هكذا. لا قدرة لـ «دولته» على لمّ شتاته الإقليمي وتشتته الداخلي. هو كيان لا نظير له، فلا هو دولة ديموقراطية برلمانية، ولا هو دولة توافقية، ولا هو دولة فيدرالية أو كونفيدرالية أو دولة بوليسية. هو «دولة كما نعيشها اليوم» معطلة ومعطوبة ومعلولة… مئة عام كافية لإقناع اللبنانيين أن بناء الدولة مستحيل بهذه الطبقة الموروثة منذ «سايكس ـ بيكو». مجتمع ما قبل الدولة لا يبني غير هذه «الدولة» اللادولة.
للحراك فضل الإشارة إلى أفق الدولة الحديثة. وله فضل الدعوة إليها من القاعدة. وهناك من لبى النداء وغامر. ومبكر جداً الحكم على النتائج، فالمعركة ما تزال في أولها.