انقضى «11 أيلول الفرنسي»، لكن تداعياته ونتائجه بدأت وستتوالد في الأيام والأشهر، وربما السنوات المقبلة، تماماً مثلما حصل بعد 11 أيلول (سبتمبر) الأميركي عام 2001، حين دمّر تنظيم «القاعدة» برجي مركز التجارة العالمي، وقتل زهاء 3 آلاف مواطن أميركي بينهم ضحايا من جنسيات مختلفة، منهم عرب.
ولمجرد وصف الصحافة العالمية المجزرة التي ارتكبت في حق مجلة «شارلي إيبدو» والشرطة الفرنسية بأنها «11 أيلول فرنسي»، بات علينا توقع التداعيات السياسية والأمنية والنفسية لهذا العمل الإرهابي، بدءاً بعلاقة دول الغرب بالإسلام والمسلمين، في فرنسا وسائر الدول الأوروبية والغربية، وصولاً إلى انعكاساته على المنطقة في شتى المجالات والميادين والدول المشتعلة أو المهيأة لأن يدخلها الحريق الذي يشهده عدد كبير من الكيانات المعرضة للتفتيت والصراعات الأهلية المتداخلة مع الحروب الدولية والإقليمية الدائرة بالواسطة.
مهّد 11 أيلول الأميركي لانطلاق ما يسمى الحرب الأميركية والعالمية على الإرهاب ولصدور قوانين دولية، بدءاً بمجلس الأمن، مروراً بالقوانين الأميركية الوطنية التي منحت السلطات الأمنية صلاحيات استثنائية مسّت في بعض الممارسات بحرية المعتقد التي يفتخر بها الأميركيون في دستورهم وقوانينهم، بتغطية شعبية آنذاك، لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش وإدارة المحافظين الجدد المتطرفين. لكن سابقة هذا الهجوم الإرهابي على نيويورك مهدت لتحولات كبرى في الشرق الأوسط: احتلال أميركا أفغانستان بعد أسابيع، ثم احتلالها العراق بعد نيف وسنتين، وبينهما أتاحت لليمين الإسرائيلي إلغاء اتفاق أوسلو مع السلطة الوطنية الفلسطينية، فأعاد الجيش الإسرائيلي احتلال الضفة الغربية لمحاولة إلغاء الشريك الفلسطيني في عملية السلام، وبدعم أميركي كامل.
قد تكون الظروف المحيطة بالجريمة التي ارتكبت ضد «شارلي إيبدو» والشرطة الفرنسية مختلفة عن تلك التي رافقت وتبعت 11 أيلول الأميركي، إلا أن توقع بداية مرحلة جديدة بعد الصدمة التي تعرضت لها فرنسا، ومعها العالم، يأتي في سياق طبيعي لتدحرج الأحداث في مقبل الأيام. وإذا كانت الاحترافية العالية التي نفذ بها إرهابيو «القاعدة» هجوم البرجين في نيويورك وتبني أسامة بن لادن حينذاك العملية، أدت إلى استبعاد نظرية المؤامرة الاستخبارية العالمية التي ساقها البعض في إطار دفن الرؤوس في الرمال، فإن الحكم على ما إذا كان هناك جهاز استخبارات ما يقف وراء هجوم «شارلي إيبدو»، يحتاج إلى بعض الوقت مع تقدم التحقيقات في هذا الشأن. فباريس معنية بأزمات دولية عدة، بتدخلها العسكري في مالي والساحل الأفريقي في مواجهة التكفيريين، وبمشاركة سلاحها الجوي في قصف «داعش» في العراق، وبتشددها في شأن الحرب السورية، حيث تعتبر أن لا حل مع استمرار رئاسة بشار الأسد، وكذلك في محادثات دول (5 + 1) مع إيران حول ملفها النووي، حيث تعتبر أن رفع العقوبات عنها يجب أن يقترن مع تراجع انفلاشها الإقليمي…
وأخيراً وليس آخراً، كانت باريس في الطليعة بقرار برلمانها الدعوة إلى الاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية، وصوتت في مجلس الأمن قبل 10 أيام إلى جانب مشروع القرار الفلسطيني إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والذي فشل في الحصول على الأكثرية، فضلاً عن أن فرنسا دعمت رفع حركة «حماس» عن لائحة المنظمات الإرهابية.
تعرضت فرنسا، ومعها الدول الأوروبية، لتهديدات من قادة دول، بأن الإرهاب المتنامي في سورية والعراق سيدق أبوابها، فهل أراد المنزعجون من موقفها في الأزمات المذكورة أو في إحداها، توجيه رسالة موجعة إليها؟
في انتظار الإجابة عن هذا السؤال، وسواء صحت الشكوك حول من يقف وراء الهجوم في باريس أم لم تصح، يبقى أن المرحلة الجديدة التي أطلقها «الجهاديون» الذين نفذوه ستشمل بالتأكيد مزيداً من مشاعر الكراهية والعنصرية ضد العرب والمسلمين في أوروبا، وسيستفيد منها اليمين الأوروبي بمواقفه الحادة ضد المهاجرين، لكسب المزيد من الناخبين، لا سيما إذا كان هجوم الأمس فاتحة هجمات جديدة سواء في فرنسا أم في غيرها، وسيسعى النظام السوري وحكام طهران لاستدراج تغيير في سياسة فرنسا حيالهما، باعتبار أن «محاربة الإرهاب» تتقدم على إصرارها على تغيير النظام في دمشق أو في الإقليم. وسيستغل اليمين الإسرائيلي المقبل على انتخابات مطلع الربيع، الموجة الجديدة من الخوف ضد الإرهاب من أجل ارتكاب المزيد من أعمال العنف ضد الفلسطينيين وتصعيد الاستيطان، في غياب أي رادع دولي، خصوصاً أميركياً. وفي أحسن الحالات، فإن جهات عدة ستعمل لتوظيف هجوم باريس لمصلحتها في المنطقة…