Site icon IMLebanon

ميثاق 14 آذار 2005

يُفترض أن يتمكن من الإدلاء بأصواتهم في صناديق الإقتراع هذا العام مواطنون كانوا أطفالاً في سنّ العاشرة من العمر يوم احتشد مئات الآلاف من اللبنانيين في يوم الوفاء لشهادة الرئيس رفيق الحريري، في يوم الرابع عشر من آذار، مطالبين بجلاء جيش ومخابرات الوصاية السورية عن لبنان. الحدث التأسيسي يبتعد عنّا في الزمن. هناك من عاصره في كهولته، هناك من عاصره في شبابه، لكن الجيل الجديد هو الذي عاصره في طفولته، ومع دخول هذا الجيل الجديد في المعترك السياسي نكون أمام فاصل جدّي بيننا وبين الحدث التأسيسي للزمن اللبناني ما بعد الوصائي – السوري، ونكون أمام التحدي: كيفية استعادة معنى الرابع عشر من آذار اليوم. كيفية استعادة مغزى ومكانة هذا الحدث في وقت وصلت فيه تجربة العمل الجبهوي المنبثقة من هذا الحدث إمّا إلى نهايتها التي كان من الممكن تفاديها، بالنسبة إلى البعض، وإما إلى خواتيمها الموضوعية، بالنسبة إلى البعض الآخر.

14 آذار 2005، الحادث ست سنوات قبل انتفاضات الربيع العربي، هو حدث جماهيري استثنائي واجهت فيه الناس لأوّل مرة بهذا الكم، بهذه الثقة بنفسها، بهذا التحدي لآلة القتل والجريمة والشرّ، نظاماً إستبدادياً عربياً يفرض احتلاله على بلد مجاور. كانت الجماهير يومها من دون قيادة واضحة أو مكتملة. نزلت الى الميدان ليس فقط للتنديد بجريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه، ليس فقط للمطالبة باستقلال لبنان وإنهاء حكم الوصاية، لكن أيضاً للإطاحة بمعزوفة أن لبنان «ليس اوكرانيا أو جيورجيا»، بمعنى ان الجماهير لن تلعب فيه الدور المقرر، في مفصل بهذه الأهمية، أو أنّ صورة الجماهير هي تلك التي تنمّطها منظومة الممانعة، كما في يوم 8 آذار.

لا شك أنّه يلزم التحوّط من أي هالة غير نقدية تلتف حول هذا الحدث التأسيسي الإستقلالي، وتحجبه عن كل تحليل لمكوناته، لتناقضاته، لتردده، لمأزقه، للواقع الذي أدى لافتراق الحشود في آخر اليوم، ولعدم توجّهها كحال «الأوكرانية أو الجيورجية» للإطاحة بـ «التمديد». الحدث يحتاج للتعامل معه بنقدية، اليوم أكثر من أي وقت مضى، وعدم المكابرة أمام بعده «الظرفي»، الموازي لبعده «التأسيسي»، ولا لاختلاف الأجندات المنخرطة فيه، بدلاً من تصوّره كجسم واحد كان من الممكن قيادته إلى بنك أهداف جذرية متجانسة قادرة على تأمين القطيعة التامة مع زمن الوصاية. مع ذلك تبقى لهذا الحدث نكهته، استثنائيته، مقارنة بما قبله وما بعده، وكل حديث عن دور الناس في السياسة في هذا البلد لا يكون فيه 14 آذار 2005 هو المحل الأول للنظر والتقييم والإعتبار والإستيحاء هو حديث بلا طائل.

جيل بأكمله لم يعاصر هذا الحدث إلا في طفولته، وهذا الجيل سيشتد عوده ويكبر سنة بعد سنة. الحدث يبتعد عنا، وإبقاؤه حياً في الذاكرة يفترض جهداً متواصلاً لأجل الحفاظ عليه، ومنع تآكله من فرط استعادته بشكل شعائري، أو شعاراتي، مترهل، أو دحض محاولات الافتراء عليه أو التبخيس من قدره.

جسّد هذا الحدث فكرة عن هذا البلد، كبلد متاح فيه المعاش بين جماعات متعددة لا كمعازل متوازية الى جانب بعضها البعض ولا كجماعات تتنازع الغلبة بين بعضها البعض، بل جماعات مفتوحة على بعضها البعض، من دون حدود بين بعضها البعض، الا حدود الكيان اللبناني. هذه الفكرة الكيانية الوطنية تشكل ما هو «غير ظرفي» في 14 آذار 2005، ما هو تأسيسي. أكثر من ذلك: إنّها شرط لكل مشروعية حقيقية في لبنان ما بعد انسحاب جيش الوصاية. المقدمة الدستورية بأن «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك» تجد انسجامها في التالي: لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق 14 آذار 2005.

هذا يفترض بالتالي التمييز بين 14 آذار كحدث تأسيسي، وبين 14 آذار كتجربة عمل جبهوي منبثقة من هذا الحدث التأسيسي، بل التمييز بين حشد 14 آذار نفسه من حيث هو رد على 8 آذار، وبين حدث 14 آذار من حيث هو «استيعاب» لـ 8 آذار.

ما الذي يعنيه ذلك عملياً؟

أوّلاً الحاجة إلى حفظ خبرة ذلك اليوم، كي لا يأتي يوم نجد فيه جيلاً من اللبنانيين ليست لديه فكرة واضحة عما حدث في 14 آذار 2005، في حين أن لبنان لم يحل مسألته الوطنية بعد، مسألة تمكنه من تحقيق شروط الاستقلال فيه، وإنهاء مشاريع التغلّب داخله، وتبعية مشاريع التغلّب للخارج.

ثانياً، الحاجة إلى استعادة 14 آذار 2005 كلحظة، وتركة، ومعنى، كحدث له موقع في النقاش حول ما هو مطروح اليوم من أمور، بما في ذلك، قانون الإنتخاب. لا يمكن أن يكون الحديث عما يجمع اللبنانيين وما يفرّق، بمعزل عن «حادثة» اجتماعهم بهذا الشكل الجماهيري الهادر، في لحظة ميثاقهم الإستقلالي يومذاك. 14 آذار 2005 كان حدثاً ناقداً بشكل مزدوج لخيارين: ان تختار طائفة عن بقية الطوائف مسار الأمور في لبنان، وأن تنادي كل طائفة بحقوقها لنفسها، فيما حرّية اللبنانيين ينتزعونها جماعة، وسواسية، أو يخسرونها كذلك.