لم يُحقّق الانسحاب السوري من لبنان في العام 2005، ما كان يطمح إليه معظم اللبنانيين من استقرار سياسي، وبحبوحة اقتصادية، أو حتى توازُن تشاركي في السلطة. فأنا أذكر كما كثيرون مِن الذين عاشوا تلك الفترة، أنّه غداةَ ذلك الانسحاب كان طموحُنا كبيراً ببناء دولة عصرية مدَنية، تؤمّن المشاركة الكاملة عبر تطبيق ديموقراطية حقيقية، دولة تحلّ فيها المجموعات مشاكلَها في الداخل، وتَحتكم في حلّ صراعاتها إلى الدستور اللبناني وإلى الميثاق الوطني، ما يَحفظ وجود الجميع ويُحافظ على لبنان الوطن السيّد. ولكنّ هذا الحلم سرعان ما تبَخّر ولم نستطع تحقيقَه أو حتّى التقدّمَ منه…
صحيح أنّ التطوّرات الإقليمية والزلزال الذي أصاب المنطقة لم يساعد على تحقيق الأهداف التي كنّا نسعى إلى تحقيقها. إلّا أنّ الوضع الداخلي اللبناني والتضاربَ بين مكوّناته ساهما إلى حدٍّ كبير في عدمِ بَلورةِ تيّار شعبي وسياسي يَعمل على وضعِ الحياة الوطنية على السكة الصحيحة، ما أدّى إلى سيطرة طبقةٍ حاكمة عملت على إقرار قوانين انتخابية ساعدت على ترسيخ وجودها في السلطة، مجموعة من الساسة تضرب الميثاق والدستور بعرض الحائط كلّما سَنحت لها الفرصة، ما ساهمَ في تأزّم الوضع الوطني ووصولِه إلى نقطةٍ تشكّل خطراً على الكيان وتؤمّن الأجواءَ المحلية المناسبة لأيّ تدخّلٍ خارجي.
فلبنان، هذا الوطن الصغير بمساحته والكبير بتعقيداته ومشاكله، يحتاج سريعاً إلى بَلورة خريطة طريق محدّدة تُخرجه من عنق الزجاجة، وذلك قبل فوات الأوان… ولعلّ عودة كلّ الأطراف إلى التطبيق الحقيقي والكامل للميثاق الوطني تبقى الخطوةَ الأولى التي تساعد في خروجنا من هذا المأزق.
ولكي نفهمَ أهمّية الميثاق يكفي أن نعود إلى تعريفاته اللغوية والسياسية ليتبيّنَ لنا مدى حاجتنا إليه. فالميثاق في اللسان العربي، جاء من الفعل الثلاثي «وثقَ»، «الثقة»، والثقة هي التي تولّد الالتزام. والمِيثاقُ هو العَهد بين أطراف متعدّدة، لذلك يأتي قبل دستور البلاد وقوانينها، ويُحدّد شروط الانتساب إلى جماعة أو مجتمع، أو إلى العمل السياسي، بغَضّ النظر عن تباينِ الآراء واختلافها بين أفراد هذا المجتمع، ومِن دونه يصبح أيّ دستور حبراً على ورق.
من هنا فقد أضحى الميثاق اللبناني ركناً أساسياً من أركان البلاد، لا يجوز تخطّيه أو التلاعب به… كما لا ينبغي استعماله شمّاعةً لمطالب ضيّقة… أو حتى استعماله في الصراع الداخلي، خصوصاً أنّ الهدف من الميثاق الوطني على حدّ تعبير الدكتور إدمون ربّاط كان: «تحرير الدولة من روابط الانتداب عبوراً إلى مواطنة الاستقلال ودمج توجّهات المواطنين» المنقسمين آنذاك بين دعاة الوحدة العربية ودعاة الارتباط بالغرب مع الاحتفاظ بالذاتية اللبنانية. ولكن وبسبب الاستعمالات الفئوية والخاطئة رسَخ الميثاق ودائماً بحسب رباط: «النظام الطائفي، المولد التاريخي للكيان»، مضيفاً: «شكّلَ الميثاق التقاءَ طوائف وليس اجتماع مواطنين في دولة قومية»…
من هنا ينبغي على كلّ الأفرقاء في لبنان أن يعودوا إلى روحية الميثاق لنخرجَ في مرحلة أولى من الخوف المتبادل الذي بات يتحكّم بتصرّفاتنا، وفي مرحلة ثانية لنعبرَ إلى دولة حقيقية تؤمّن العدالة بكلّ أشكالها، خصوصاً عدالة إقرار قانون انتخابي يؤمّن حماية حقيقية للميثاق والدستور ويَمنع الجماعات اللبنانية من الاستعانة بالخارج أو مِن رفعِ شعار الخوف أو الشعور بالإحباط مع كلّ أزمة وأمام كلّ عاصفة يعرفونها في لبنان.