Site icon IMLebanon

ميثاقية كيري لافروف

 طرح التيار الوطني الحر «الميثاقية» كموضوع للنقاش على طاولة الحوار في عين التينة لوضع خلفية سياسية أو عنوان لأيّ تحرك أو إجراء يقوم به بعد انسحاب وزرائه من الجلسة الأخيرة للحكومة. يحاول التيار لعب دور الضحية مجدداً لاستثارة جمهوره تحت عنوان دور المسيحيين وحقوقهم، وخوض معركة سياسية تُبقيه موجوداً بانتظار جلاء ضباب المرحلة. يقول الوزير باسيل بعد خروجه من جلسة الحوار أنّه لا يريد العودة الى مرحلة 1990-2005، علماً أنّ هذه المرحلة بدأت باتفاق الطائف الذي قام على المناصفة فحمى حقوق المسيحيين بضمانة عربية دولية وبرغبة أكيدة من الفريق الآخر، وأكدّ على نهائية لبنان مُنهياً شرعية أي طموح خارج الحدود في المستقبل.

الحكومة المشلولة أصلاً لن يُضيرها استمرار مقاطعة التيار الوطني الحر بقدر ما ستُحرج هذه المقاطعة حلفاء التيار المتمسكّين بها، بعد تعطّل المجلس النيابي واقتصار ظهور نواب الثامن من آذار على «صبحية الأربعاء النيابية» الإستعراضية، دون أي دور، وطبعاً المعدومة الميثاقية وفقاً لنظرة التيار الخاصة للميثاقية. فهل يطرح  التيار على نفسه وجمهوره جدوى الإستمرار في هذه الجلسات وهل سيستمر بها؟

 ماذا قدّمت الحكومة التي يعتبرها التيار ميثاقية قبل خروجه منها؟ وماذا قدّمت طاولة  الحوار الميثاقية للبنانيين على صعيد احترام عمل المؤسسات واستقلاليتها ودورها أو على صعيد تحقيق أدنى متطلبات اللبنانيين الحياتية؟ الجواب لا شيء طبعاً. إنّ حكومة لم تحقق أيّاً من حقوق مواطنيها ولم تمنحهم الإستقرار الإجتماعي والإقتصادي بل تدفعهم الى الغربة واليأس كلّ يوم، لا يحقّ لها أن تدّعي الميثاقية حتى لو اجتمعت على طاولتها كلّ مكوّنات الأرض. الميثاقية ليست باجتماع ممثّلي المكوّنات السياسية أو الطائفية، الميثاقية هي في مدى  ملاقاة هذه المكوّنات لحاجات المواطنين اللبنانيين الحياتية والسياسية. وبهذا المعنى فإنّ الميثاقية التي يُقيم عليها الدنيا الوزير باسيل ولا يقعدها إنّما هي ميثاقية فقدت أبسط مضامينها واحتفظت بشكل بروتوكولي، تتظلّل به حكومة غير منتجة ومجلس نيابي يخالف الدستور عند كلّ طلوع شمس وطاولة حوار لم تقدّم أيّة نفحة حياة للأزمة السياسية في لبنان.

ومن قبيل إنعاش الذاكرة والعرفان بالجميل وبالعودة إلى بيان حكومة الإستقلال الأولى التي أنتجها مجلس نيابي انتُخب في 29 آب 1943 وضمّ 55 عضواً، أورد الرئيس الراحل رياض الصلح من ضمن ما اتّفق على اعتباره الميثاق الوطني حين قال: «إنّ الساعة التي يُمكن فيها إلغاء الطائفية هي ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان، وسنسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله …وسنعمل جميعاً بالتعاون تمهيداً وإعداداً حتى لا تبقى نفس إلا وتطمئن كلّ الإطمئنان إلى تحقيق هذا الإصلاح القومي الخطير»، وتابع:«وما يُقال في القاعدة الطائفية يُقال مثله في القاعدة الإقليمية التي إذا اشتدّت تجعل من الوطن الواحد أوطاناً متعددة. وفي موضوع موقع لبنان ودوره قال: «إنّ إخواننا في الأقطار العربية لا يريدون للبنان إلا ما يريده أبناؤه الأُباة الوطنيون، نحن لا نريده للإستعمار مستقراً وهم لا يريدونه للإستعمار إليهم ممراً، فنحن وهم إذاً نريده وطناً عزيزاً مستقلاً سيّداً حراً».

في بيان حكومة الإستقلال، قام البعد الداخلي للميثاق على إلغاء مخاوف اللبنانيين من خلال دور لبنان في محيطه وليس من خلال التعبير عن تقاسم محلّي لدور أو نفوذ. الميثاقية بُنيت على تجنب الإنزلاق الى أدوار ورهانات دولية  وإقليمية، وبهذا المعنى جاء البعد الإقليمي لميثاق 1943 واضحاً لجهة طمأنة العرب وإلزام اللبنانيين في آنٍ واحد. الجامعة العربية بموجب المادة الأولى من ميثاق مؤتمر القاهرة، ليست دولة متّحدة كما أنّها لا تمثّل أدنى شخصية مستقلة. توقيع لبنان على الميثاق أتى ليؤكّد على الإستقلال التام الناجز دون أيّ امتياز أو مركز ممتاز لأيّ دولة كان وفقاً لما ورد في البيان الوزاري لحكومة الرئيس الصلح في آب 1945.

ارتبطت الميثاقية اللبنانية دائماً براعٍ إقليمي أمين أعاد لها توازنها واستقرارها عند كلّ مفترق حرج. في خمسينات القرن الماضي أعاد تحالف الرئيس عبد الناصر مع الرئيس الأميركي الجنرال ايزنهاور إرساء الميثاقية وتوازنها بعد اختلالها  لدى دخول لبنان في الحلف الثلاثي وتوقيع البيان المشترك التركي اللبناني في أوائل نيسان 1955. اهتزت الميثاقية مع إختلال الإستقرار العربي عام 1967وتفاقم النفوذ الفلسطيني في لبنان مما أدى إلى الدخول في خمس عشرة سنة من الإقتتال وإلى تحويل لبنان إلى ساحة لتصادم المصالح العربية والدولية، ليعود الإستقرار بتفاهم إقليمي دولي على دستور جديد عام 1989. الإستئثار السوري بلبنان وتمدّد النفوذ الإيراني الى المشرق العربي، لم يلبثا أن انتجا خللاً بنيوياً عميقاً في العلاقات بين المكوّنات اللبنانية أسقط معه معادلة «المقر والممر للإستعمار»التي لم يرممها إتفاق الدوحة.

اليوم تعيش الميثاقية ومن خلفها اللبنانيون في مربع الإنتظار أمام مشهد إقليمي معقّد لا تقوى طاولة الحوار المحليّة على حلّ أحجيته لأنّ اللاعبين المتحلّقين حولها لم يعتادوا اتّخاذ القرارات. إنزلاق السياسيين في لبنان في الإستزلام حوّل لبنان إلى مصدر للخطر وأخرجه من دائرة الإهتمام العربي. مصير لبنان اليوم بين أيدي وكلاء الرعاة الدوليين. يقول نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في حديث إلى مجلة أتلانتيك الأسبوع الفائت: «سوريا لم تعد ضمن دائرة اهتمامنا لأنّها لا تمتلك موارد مهمة ولم يعد لها دور إقليمي لأنّها أصبحت ضمن المحور الإيراني ولدينا شريك واحد في سوريا هو روسيا». الميثاقية في لبنان الآن رهن بفهم الثنائي كيري – لافروف  للخصوصيات اللبنانية ومصير لبنان وقفٌ على فهم القوى العظمى للسلة اللبنانية!!!