منذ قرابةِ مئة عام، وفي خضمّ الحرب العالمية الأولى، اتّفقَت فرنسا وبريطانيا عبر وزيرَي خارجيَّتيهما على تقسيم الشرق الأوسط وفقَ خريطة جيو سياسية جديدة، ومن خلالها تقاسُم النفوذ.
كانت السلطنة العثمانية، أو ما عُرف يومَها بالرجل المريض، على قاب قوسين من الزوال، بعد مرحلة طويلة من السيطرة على مناطق مترامية الأطراف.
لكنّ السَلطنة التي تلاشت في الحرب العالمية الأولى كانت قد بدأت تَلفظ أنفاسَها قبل عقود عدّة، وهي بقيَت تنازع لفترةٍ طويلة بسبب الصراع الحادّ الذي كان قائماً بين الدوَل الخمس الكبرى يومَها على مَن سيَرثُ هذه الأمبراطورية المتهالكة.
وجاء الحَلّ مع اندلاع شرارة الحرب العالمية الأولى واتّجاه رياح الانتصار لصالح باريس ولندن، لتبدأ معها حقبة تاريخية جديدة في الشرق الأوسط، المنطقة التي ستكون محَطّ الاهتمام الدولي بسبب احتضانها أكبرَ مخزون نفطيّ، ونشوء دولة إسرائيل التي تَحظى بدعم أميركي وغربي كاملَين.
قبل ذلك بنحو مئة عام أيضاً كانت سِلسلة الحروب تحطّ أوزارَها في أوروبا بعد تكريس خسارة نابوليون. وحَصلت يومها تسويات سياسية سريعة في أوروبا لم تصل الى معالجة عميقة للصراعات، ما أدّى إلى تنامي الأحقاد الدفينة لتنفجرَ حرباً عالمية مرعِبة بعد زهاء قرن من الزمن.
اليوم، هناك مزيج مشابِه لتلك الحقبات التاريخية، والمسرَح هو الشرق الأوسط، ما يُمهّد لنزاعات دموية طويلة تنتج متغيّرات جيوسياسية كبيرة لا أحدَ قادر على تحديد صورتها منذ الآن. شعوبٌ غاضبة بعد عقود من القهر على يد أنظمةٍ فاسدة، أمّا دوافع الصراع فأيديولوجيات دينية ومذهبية سريعة الاشتعال وسخية الدماء.
الواضح أنّ هناك مَن واكبَ إلى حَدّ الرعاية، الصعودَ السريع والعنيف لتنظيم «داعش» كسبيلٍ وحيد للوصول إلى الفوضى الخَلّاقة، ومنها إلى المتغيّرات المنشودة.
ثَمَّة مَن ينتقد خضوعَ العقل العربي لهاجس المؤامرات، لكن لا شكّ في أنّ بصمات التآمر واضحة وموجودة، ولو أنّه لا بدّ من الإقرار بأنّ لهذا التنظيم أجندته المستقلة وأسلوبَه الخاص. والأفق الزمني المفتوح أمام «مرحلة داعش»، يطرح علامات استفهام كثيرة: لماذا تعَمَّد هذا التنظيم حرقَ الضابط الأردني معاذ الكساسبة بطريقةٍ بشِعة ومقزّزة؟
ولماذا تنفيذ جريمة مروّعة بحقّ أقباط مصريّين غداة الزيارة غير المسبوقة للرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي إلى الكنيسة ومشاركة الأقباط احتفالَ عيد الميلاد، وبالتالي التزام الرئاسة المصرية حماية وجود المسيحيّين؟
وقد يكون صحيحاً أنّ قيادة «داعش» تحاول استعادة الصورة المرعِبة التي رافقَت صعودَها السريع، وبالتالي إرهاب أعدائها كما عناصرها الذين فرَّت أعداد منهم تحت وطأة الضربات الجوّية، لكن هناك مَن يعتقد أنّ قيادة التنظيم تحاول أيضاً استدراجَ الأردن ومصر إلى حرب برّية بعيداً عن أراضيهما للنفاذ الى قلب نسيجهما الاجتماعي وتفجيره من الداخل.
والواضح أيضاً أنّ هذا التنظيم يسعى إلى مضاعفة بريقِه من خلال تنفيذ عمليات جريئة في قلب أوروبا سعياً لاجتذاب شرائح إسلامية في العالم العربي نَمت على أفكار عدائية للغرب.
لكنّ واشنطن والعواصم الأوروبّية تحاول بدورها شَلَّ خَطر المتطرّفين باتّجاهها وحصرَه في ملاعب الشرق الأوسط دون سواها.
فمَثلاً وضعَت باريس دراسةً كاملة عن عملية «شارلي ايبدو»، وخلصَت إلى أنّ الإسلاميين المستعدّين للعمل ضدّها ينحصرون فقط بالمتحدّرين من الجزائر ولأسباب تاريخية تتعلق بالصراع الدامي في مرحلة الاحتلال الفرنسي لهذا البلد. أمّا بقيّة المسلمين فيرفضون التحرّك ضدّها.
وأوقفَت السلطات الفرنسية إحدى الموظفات في الجهاز الأمني والتي كانت مكلّفة بمتابعة منفّذَي العملية. وهي على ما يبدو تعَمَّدت عدمَ الإبلاغ عن تحرّكاتهما المشبوهة قبل يوم من العملية، على رغم وضعِهما تحت المراقبة الصارمة، بهدف مساعدتهما. والموظّفة من أصول جزائرية.
وتعتقد السلطات الباريسية أنّ الإضافة الوحيدة التي ظهرَت من نتائج النزاع في سوريا تمَثّلت باكتساب خبرات قتالية وإرهابية، لكنّها لم تؤلّب الجاليات الإسلامية الموجودة في فرنسا ضد النظام العام، لا بل على العكس.
وهذا يعني في الخلاصة، أنّ فرنسا ومعها العواصم الغربية مستمرّة في سياسة إدارة الصراع في العراق وسوريا وليس إخماده أبداً، في انتظار تحقيق الأهداف المرجوّة، وذلك بعيداً من الشعارات الإعلامية المطروحة، أو الأسلوب الجديد المتَّبَع. المهم أنّ في واشنطن طروحات كثيرة في شأن الصورة المستقبلية للمنطقة تتراوَح ما بين تفتيت الدوَل وفق مجموعات متناحرة، أو توزيع السلطة داخل البلد الواحد. والقاسم المشترك بين كلّ هذه المشاريع خريطة جيوسياسية جديدة.
في العادة، تكون المجموعات الصغيرة والأقلّيات ضحيّة تغييرات بهذا الحجم، وما حصلَ بحقّ مسيحيّي العراق والازيديين مثالٌ واضح على ذلك قد تتبعه أمثلة إضافية، وقد يكون مثالاً وحيداً في حال أحسَنت الأقليات قراءة المعطيات بمنطق العقل وليس بانفعال العاطفة والغريزة.
في لبنان، لم تُحسِن المجموعات المختلفة قراءة المخاطر الموجودة والتي تُهدّد المستقبل.
فالمسيحيّون يخسرون بإرادتهم ورقةً ثمينة اسمُها رئاسة الجمهورية، قادرة على منحِهم صوتاً ولو ضعيفاً في المنتديات العالمية، ما يفاقِم مِن ضعفِهم ويكشفُهم أمام شتّى أنواع المخاطر، وفي هذا الوقت يتحَضّر الأطراف الفاعلون لمعارك الربيع، فعند الحدود البقاعية حشودٌ وتحضيرات تنتظر ذوَبان الثلج.
والموقع الأمثل للتمركز والانتشار، وفق ما كشفَت الوثائق التي عُثِر عليها لدى «داعش»، يشمل: وجود عمقٍ جغرافي وتضاريس، ضعفَ النظام الحاكم وضعفَ مركزية قوّاته، طبيعةَ الناس ووجود بيئة متعاطفة، وأخيراً انتشارَ السلاح بأيدي الناس. ولا حاجة لكثير من التفكير للاستنتاج أنّ لبنان يُعتبَر بلداً مثالياً لـ«داعش».
عند الحدود البقاعية حشودٌ وأعدادٌ متزايدة لـ»داعش» بهدفِ التمركز في البيئة اللبنانية، وفي المقابل تخطيط لـ»حزب الله» من أجل المواجهة الحربية يطاول مستقبلَ المنطقة تماشياً مع المتغيّرات التي تصيب الخريطة السورية، والتي تصبّ في النهاية في ترتيب شرق أوسط جديد مستقبلاً.
تحضيرات ترتبط بالمستجدّات العراقية والسورية، ولا تستثني التطوّرات اليمنية والليبية والترقّب المصري والأردني.
إستعدادات قائمة لربيع حارّ وصيف ملتهب، وما عدا ذلك، ثرثرات باهتة لمَلء الوقت وتكريس الخسارة، وهو مَن لا يتقنه سوى زعماءِ الموارنة، مع بالغِ الأسف، ويعتقدونه «شطارة».