زميل وصديق فرنسي قديم، قال لي وهو يتأفف كعادة الفرنسيين عندما يتحدثون عن اليوميات حتى العادية منها، فكيف بالحسّاسة أو التي تثير قلقهم: «لم أعد أفهم ما يحدث عندكم في الشرق، رغم انه يتعلق بِنَا كما بكم وإن بطرق مختلفة. خمس سنوات مرت على «الربيع العربي» الذي تمنّينا نحن الديموقراطيين بعيداً عن حكوماتنا ومصالحها المعقدة، أن «يُزهر» ويرسم ولو مسارات جديدة للديموقراطية وقيام حكومات لا تتنافس في الفساد الذي يطال طبقات حاكمة وإدارات بيروقراطية مترسخة يتزاحم أركانها من القمة الى القاعدة على الرشوة، وجيوش إن لم تحكم مباشرة فبالواسطة أو بالإمساك بالاقتصاد، أي المال، مما يدفع الى تكوّن مراكز قرار عملها الاول العمل على إرضاء جنرالات يموت أو يسقط بعضها ولا يراها الشعب، فيطلق عليها لقب «الشبح» أو «هو» سواء من الخوف أو بسبب الواقع».
قبل أن أبدأ بالرد أكمل الزميل والصديق الفرنسي: «طبعاً كما تقولون في الشرق «تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن»، إذ إن «الربيع» تحوّل الى خريف وحتى شتاء جليدي، وما يجري خير دليل على ذلك. الأغرب من هذه النتيجة السوداء، ظهور «داعش» الذي يذكّرني بما كنّا نقرأه أو نتبادله للتسلية عن قدوم «فرسان الموت الخمسة» لدى الحديث عن الحروب التي اشتعلت من القرون الوسطى الى نهاية الحرب الثانية. نتابع اليوم الحرب العالمية الثالثة ونتعجب وطبعا الكثير منكم كذلك. التحالف الدولي ضد «داعش» ربما أكبر من التحالف ضد المحور والنازية ومع ذلك، كل يوم أكثر دموية من الآخر، ولا شيء يؤشر الى نهاية لهذا التنظيم الأسود والدموي، الأخطر انه يكبر ويتمدد ويتنقل بين الجبهات وكأنه مثل الأساطير اليونانية القديمة اذا نظرت في عينيه تحجرت وإذا قطعت رأساً له وُلد له رأس آخر، ويكاد أن يكون مثل «سيزيف» ما ان يصل بالصخرة الى القمة حتى ينحرف ويسقط من القمة الى قعر الوادي. المؤلم انه وهو يتدحرج يقتل ويدمّر. القاتل في هذا ان هذا التحالف عاجز عن الحسم لا أعرف اذا كان هذا بقرار أم عن عجز أو تشتت في القوى والتنسيق، إذ ما معنى ان تقطع قوافل «داعش» المسلحة طرقات مكشوفة ولا «تراها» الطائرات التي في اليوم التالي تصطاد مسؤولاً في مخبأه أو في سيارته؟«.
أكمل زميلي الفرنسي العتيق: «أعرف ان لديك عشرات الأسئلة المعقدة والدقيقة التي يتطلب بعضها إجابات بسيطة منها ما يتعلق بِنَا في الغرب، ومنها بكم، مثل: هل كل ما يحدث هو محاولة لرسم خريطة جديدة للشرق الاوسط أقل ما يقال فيها التسليم بأن اتفاق سايكس – بيكو قد انتهى في ذكراه المئوية وأن دولاً ستزول ودولا ستقوم، وشعوباً ستمزق وتهجر وشعوباً ستنتقل لإحداث تغيير ديموغرافي بالحديد والنار؟ إنها مؤامرة الغرب على الشرق؟ ربما في هذا كله شيء من الواقع، لكنني أعتقد ان الأمور ليست حالياً بهذه البساطة. قبل مائة عام لم يكن العالم يعرف سوى الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، لذلك مزقتا منطقتكم بسهولة قطع قالب من الكاتو ودون معارضة تُذكر. اليوم توجد خمس دول إقليمية كل واحدة منها لها جذورها وطموحاتها ومشاريعها وهي مستعدة للحرب كما يحدث حالياً وأكثر للدفاع عن نفسها وهي: تركيا وإيران والسعودية ومصر وإسرائيل. ويجب ألا يغيب عن بال احد روسيا و»قيصرها» فلاديمير بوتين، انه على الارض في سوريا ولن يقبل بتجاهله وعدم حصوله على ضمانات تؤهل روسيا لتصبح الشريك الفعلي للولايات المتحدة. وكأن ذلك لا يكفي، يوجد «داعش». حتى الآن خطر «داعش» وممارساته الدموية والسوداء تتنقل من الجزائر الى سوريا والعراق. نحن ذقنا جنونه في فرنسا وبلجيكا وصرخنا من الألم، والتهديد ما زال ضخماً، يكفي ان يدنا على قلوبنا مع اقتراب بطولة أوروبا لكرة القدم، ماذا لو وقعت جريمة إرهابية تتجاوز الجرائم السابقة؟ السؤال الذي يشغلنا ويشغل كل العواصم بما فيها واشنطن، ماذا يحدث اذا رد «داعش« على حصاره وضربه على مساحة العالم؟ عندما حوصر تنظيم «القاعدة» ردّ في نيويورك، علماً ان «القاعدة» تنظيم محدود القوة والمال والتعطش للعنف الأسود أمام «داعش»، كل ذلك في وقت نعيش فيه سلسلة من الأزمات بعضها وجودي؟«.
سألته بسرعة قبل أن أفقد فرصة السؤال: «يعني أنتم كمن يطلق النار على قدمه حتى لا يذهب الى الحرب فإذا بالعدو يقتحم بيتكم؟«.
أجاب بسرعة وبمزيد من الإصرار: «يمكنك ان تقول ما تريده وأن تسخر من ردّ فعلي ولكن تذكّر اننا على مساحة أوروبا وصولاً الى الولايات المتحدة الاميركية نعيش أمام مفترق طرق تلوح فيها من بعيد أخطار حروب أهلية. يجب عدم التعجب أمام صعود اليمين المتطرف وخطره. في النمسا كاد هذا اليمين أن يأخذ السلطة حتى حساب آخر مقترع، وعندنا في فرنسا هذا اليمين المتطرف يكاد ان يصبح أقوى الأحزاب، كذلك في هنغاريا والسويد وبولونيا حيث في هذه الدول تكاد الشعبوية تقضي على كل شيء. أما في الولايات المتحدة الاميركية فإن مرشحاً مثل دونالد ترامب الذي سحق منافساً له في الحزب الجمهوري قد يتغلب على منافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون ليس عبر مشاريع مستقبلية وإنما في اثارة احداث من الماضي. ثم اذا اصبحت واشنطن في خطر، فوَيْل للعالم!».
قلت له: «لقد أتيت إليك لأستعين بك، فإذا بي أغرق في مياه نهر «السين» لكثرة ما أوغلت في سوداويتك. لكن دعني أقول ببساطة: وَيْل للعالم من نار الشرق!«.