لم يتغيّر سلوك النظام السوري تجاه لبنان منذ سبعينات القرن الماضي. حتى قبل ذلك كانت نظرته إلى هذا البلد محكومة بمطامع الضم والإلحاق وعدم الإعتراف، وعندما كان يضطر إلى المهادنة يلجأ إلى التلاعب بأوضاعه ومقوماته، والنتيجة واحدة: وضع البلد الجار في حالة دائمة من القلق وعدم الاستقرار.
للسلوك هذا جذور تاريخية تمتد إلى قيام لبنان الكبير. وبعض اللبنانيين أسهم في تبريره وتعزيزه في محطات عدة. قبل الاستقلال عندما تمسكوا بالوحدة مع سوريا، وبعده عندما مرّروا رفض سوريا انضمام لبنان للجامعة العربية، ثم عندما توافدوا إلى دمشق لطلب الدعم في معاركهم وخلافاتهم الداخلية (احداث 1958)، وبعدها عندما وضعوا مصيرهم في شدق الأسد لدى انفجار الأوضاع في 1975.
كان ذلك التاريخ بداية لأخطر تلاعب بمصير البلاد وأكبر تهديد لوجوده. وتجلى ذلك في إقتسام فعلي لأرضه بين إسرائيل وسوريا واستعادة لنظام المقاطعجية، الذي لا يزال حياً يُرزق، بوصفه الأفضل في قهر شعبه، وفي تقديم الخدمات لوالي دمشق ووالي عكا. كانت تلك تجربة قرون عثمانية تستعيد حياتها بقيادة نظام سوري اتفق مع الاسرائيليين برعاية هنري كيسنجر على اقتسام بلاد الأرز… بين الواليين إياهما.
الأطماع المباشرة سرعان ما تتحوّل إلى ألاعيب خفية تفرضها تغييرات في الظروف وموازين القوى. كان اتفاق الطائف مناسبة للنظام السوري إغتنمها لحل كل التنظيمات المسلحة في لبنان للإبقاء على تنظيم واحد جرى تكليفه بمقاومة الاحتلال الاسرائيلي. رضخ الجميع للقرار السوري بمن فيهم مؤسسو مقاومة ذلك الإحتلال، وارتبطت المقاومة المتبقية كلياً بمشروع إقليمي كانت له ولا تزال الأولوية. وعندما انسحبت إسرائيل في عام 2000 انزعج المشروع الإقليمي، فمن شروط بقائه استمرار الاحتلال وليس العكس، ولذلك تم طرح استرجاع القرى السبع قبل ان تستقر تلك المطالبة على استرجاع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وكل ذلك بهدف تبرير استمرار “المقاومة الإسلامية” التي ستتحول قوة مقاتلة في الإقليم، وخصوصاً في سوريا.
بالأمس كشف المفاوض الأميركي الضليع في شؤون سوريا ولبنان وإسرائيل وفلسطين، ان الرئيس بشار الأسد أبلغه في 28 شباط 2011 بملكية سوريا لتلك المزارع والتلال وان ادعاء تبعيتها للبنان ليس سوى تبرير لاستمرار “حزب الله” في حمل السلاح…
لم نسمع نفياً أو توضيحاً من دمشق، ولا من حليفها في المقاومة الإسلامية ولا من الحاكم اللبناني الفخور بتعامله معها. وستمر تصريحات الأسد كما مرت مواقف مثيلة لها، ومزارع شبعا البحرية التي يجري العمل على اختراعها في البحر الجنوبي لن تجد من سيسعى لمثلها في بحر طرطوس الشمالي، ما دام مقاطعجية لبنان يلتحقون طوعاً بالوالي الأكثر قسوةً والأشد حفظاً لمكاسبهم وهم في خدمته.