أجمع الإعلام اللبناني على تبجيل سعيد عقل. حتى «السفير» و«الأخبار» تعاملتا معه على أنه شاعر فحسب. كان الجانب السياسي في شخصه، ودوره السياسي في الحرب الأهليّة – أو في النفخ في نارها – عرضيّاً في الرثاء. لم يرد الإعلام أن يتوقّف عنده، وانتخابات زحلة والمعلّقة مركزيّة في الفصل بين فريق 8 و14 آذار. لا نريد تعكيراً على الخنادق، ولماذا نعكّر على اللبنانيّين احتفالاتهم بفلاسفة وعباقرة من مكتشفي أدوية للسرطان إلى متسلّقي جبل الباروك، إلى ملك البطاطا (قبل إقفاله).
أما محطة «المنار» فأوردت تقريراً عنه من دون أن تشير ولو عرضاً – على طريقة «الجديد» مثلاً – إلى مواقفه العنصريّة ومناصرته الصفيقة والصريحة لجيش الاحتلال الإسرائيلي قبل وأثناء وبعد اجتياح 1982. لكن اعتبارات «التفاهم» بين حزب الله والتيّار العوني تعلو على ضرورات التصدّي للأبواق الصهيونيّة في لبنان، وفريق 14 آذار لا يختلف عن توجّهات سعيد عقل في حب لبنان عن طريق العدوّ الإسرائيلي، أو العكس. محطة «إل. بي. سي»، التي نتذكّر يوميّاً – لأنها هي تذكّرنا – أن بشير الجميّل كان وراء تأسيسها وصفت مناصرته لجيش الاحتلال ودعوته لإبادة الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه بأنه «انحياز لوطنه». أما نانسي السبع فاعتبرت (في تعليق على «فايسبوك») أن شعر عقل «وأدبه يشفع له» في مواقفه الموالية للعدوّ. هل هذا يعني أن أنطوان لحد كان سيُغفر له لو أنه قَرَض الشعر؟ والشاعر محمد علي فرحات دعانا على محطة «إم. تي. في» إلى قراءته من دون ان يحدّد ما إذا كان يدعونا لقراءة دعوته إلى إبادة الشعب الفلسطيني في لبنان في مطبوعته «لبنان». هناك جانبان لسعيد عقل. الجانب الأدبي المُبدع والجانب السياسي، وهذا الفصل يصلح عن كل أديب أو فنّان يتعاطى السياسة. لا يمكن لسبب سياسي (جائر) نفي الموهبة أو حتى الإبداع عن مَن يمتلكها. أنا، مثلاً، مُعجب جدّاً بالمغنّي الأميركي بوب ديلن، مع أنه صهيوني. ولا يمكنني إلا أن أعترف أنّ المطربة الإسرائيليّة أوفرا حازا، تمتلك صوتاً جميلاً (فشل العدوّ في تسويقها على أنها «فيروزتهم» – بعيد الشبه). أما سعيد عقل، فأنا أتحمّس في الكلام عن شاعريّته. مَن يملك أن ينفي عن الرجل شعره البديع الذي أثرى مكتبتنا العربيّة (لا اللاتينيّة أو الفينيقيّة) وترك بالغ الأثر في كل الشعراء الذين تعاقبوا بعد الخمسينيات؟ أنا كنتُ أقصّ قصائده من الجرائد قبل ان تُطبع في دواوين. كنتُ وصديقي الشاعر أمثل إسماعيل نتبادل الحديث بإعجاب عن شعر سعيد عقل في سنوات الصبا. قيل إن محمّد عبد الوهاب قال عن قصيدة «الجندول» لعلي محمود طه أن تلحينها سهل لأنها نُظمت مُلحّنة. لكن قصائد سعيد عقل هي ألحان، والحروف في «قصائد من دفترها» مثلاً ترقص جذلة. تلاعب عقل بالكلمات كما لم يتلاعب غيره من الشعراء المعاصرين. مَن غيره يقول: «أجمل التاريخ كان غدا»؟
أما نثر عقل، فهو قليل («لبنان إن حكى» والكتيّب عن «مشكلة النخبة في الشرق» – تغيّر عنوان الكتاب في إصدار المجموعة الكاملة لمؤلفّات عقل، الجزء الثاني – أو بضع صفحات لـ«الوثيقة التبادعيّة»). والطريف ان كل المتحمسين لسعيد عقل تحدّثوا هذا الأسبوع بإسهاب عن نثر سعيد عقل مما يفضح جهلهم بمؤلّفاته. هم على الأرجح سمعوا به وتأثّروا بما قيل عنه، وافترضوا أنه أديب نثر أيضاً (إن مجموع ما كتبه عقل من نثر لا يزيد عمّا كتبه ميخائيل نعيمة من شعر). وحاول عقل كتابة «الملاحم الشعريّة» – كلها كانت مسرحيّات شعريّة قصيرة على نسق مسرحيّات أحمد شوقي الذي سبقه في ذلك – لكن اسم «جلعاد» ليس متداولاً كما أسماء شخصيّات مسرحيّات شوقي المروفة والمغنّاة. طبعاً، سعيد عقل كان «أعظم شاعر» بالنسبة إلى سعيد عقل (يقول عن نفسه: «في شعري جمال غير موجود في الشعر الأوروبي كلّه»، «الشراع»، 20 شباط، 2009).
هناك من يسوّغ فعلة عقل بالقول إن هناك سياقاً للحديث مع التلفزيون الإسرائيلي
وانا، وإن كنتُ اقطن في الغربة، سارعتُ إلى اقتناء المجموعة الكاملة لمؤلفّات سعيد عقل التي صدرت عن دار نشر «نوبليس» – هل أبشع من هذا الاسم، كأن اللغة العربيّة تفتقر إلى كلمة مرادفة؟ لكن شعر سعيد عقل لن يكون خالداً عبر القرون كما شعر محمود درويش أو المتنبّي أو المعرّي. شعر سعيد عقل من أجمل الأشكال والألحان والألوان لكن المضمون يكاد يكون خالياً أو فقيراً (هذا ما عناه أدونيس عندما قال إن عالم سعيد عقل الشعري هو «عالم صغير»). شعر محمود درويش إنساني يُترجم إلى كل لغات العالم ويُدرّس في كليّات الآداب، أما شعر سعيد عقل فهو محلّي (بالرغم من محاولات اللبنانيّين في المهاجر ترجمته والترويج له) ومدرسي تكميلي. واللافت ان موت سعيد عقل لم يمرّ حدثاً كبيراً عربيّاً (حتى لا نتحدّث عالميّاً) كما مرّت وفاة نزار قبّاني أو محمود درويش. هو ظاهرة إبداعيّة شعريّة لكن محليّة جداً، وقد ساهم غناء فيروز لشعره في زيادة عذوبة كلامه على الأسماع. والمفارقة في قيمة سعيد عقل الشعريّة ان الذي نبذ واحتقر الثقافة العربيّة لم يجد تقديراً أو وجوداً خارجها، رغم ترداده لترّهات عن تقدير عالمي له، وعن ابتكاره لكلام عربي بالحرف اللاتيني.
هناك من يحاول أن يزعم ان سقطة عقل كانت عبارة عن مجرّد مقابلة (بسيطة) مع وسيلة إعلام إسرائيليّة صرحّ فيها عن تأييده القوي لاجتياح لبنان عام 1982 (والذي أودى بحياة 20000 لبناني وفلسطيني وسوري، ومعظمهم من المدنيّين والمدنيّات) وعن ضرورة إبادة الشعب الفلسطيني. لكن لم تقتصر مواقف عقل «الإباديّة» – بحسب تعريف المؤرّخ داننيل غولدهاغن عن «اللاساميّة الإباديّة» في كتابه «جلادو هتلر الطوعيّون» – على هذه المقابلة بل سبقتها مواقف كثيرة، قبل الحرب الأهليّة، وعشيّة الحرب الأهليّة، وأثناء الحرب الأهليّة، وفي ما بعد الحرب الأهليّة.
بدأ الخط السياسي الفاشي النزعة لعقل يرتسم في الخمسينيات. وكتيّبه عن «مشكلة النخبة في الشرق» لا يحيد عن التوجّهات النازيّة حول حكم الأقليّة المتفوّقة على عامّة الجهّال. وفي هذا المؤلّف، يرفض مثل النازيّين فكرة المساواة بين الأفراد (سعيد عقل، «شعره والنثر»، جزء 2، ص. 180). وإذا كان كمال الصليبي يلوم طانيوس الشدياق في إبتكار فكرة إستمراريّة كيانيّة لبنان منذ الفينقيّين، فإن سعيد عقل هو المسؤول أكثر من غيره عن الترويج لأسطورة لا علاقة لها بالعلم أو التاريخ. الرجل لا يتورّع ان يتحدّث عن أن هناك ثلاث حضارات عالميّة فقط: اللبنانيّة والرومانيّة واليونانيّة، وأن هناك ثلاث «دول عظيمة في العالم هي: لبنان، اليونان، إيطاليا» (مقابلة مع «السفير»، 13 نيسان، 1994، مدرجة في منى سكريّة، «حاورتهم منى سكريّة»، ص. 1274). و«ثقافة» العداء لـ«الغريب» (العربي، فقط) هي من ابتكارات سعيد عقل. ولم يكتفِ عقل بضخ أفكاره في الصحف اللبنانيّة، بل عُيّن أستاذاً في الجامعة اللبنانيّة مع أنه لم يكمل دراسته الثانويّة (عاد عمر فرّوخ إلى لبنان بشهادات من جامعة برلين وإيرلنغن ولم تقبل به جامعة في لبنان فاضطرّ إلى التعليم في مدارس المقاصد – علّم في الجامعة العربيّة بعد تأسيسها). ويقول عقل إن هناك «أحد عشر لبنانيّاً هم عمالقة العالم» (وهو واحد منهم قطعاً). كما ان غروره يسمح له بالقول عن المتنبّي «شو هالبضايع» (مقابلة في كتاب منى سكريّة، ص. 1285). وأحياناً يقول عنه «بعض الأبيات» فقط. أما عن محمود درويش الذي يُترجم شعره إلى كل لغات الأرض، فيقول عنه «لم أعرفه. لم أعرف شعره، ولهذا لا أستطيع مدحه أو ذمه. لم أقرأه.» (مقابلة مع «الشراع»، 20 شباط، 2009)، (في أحيان أخرى يقول عنه «بعض الأبيات فقط»). لكن مسؤوليّة سعيد عقل السياسيّة والأخلاقيّة تكمن في رعايته لميليشيا «حرّاس الأرز» منذ ما قبل اندلاع الحرب الأهليّة (لأن هناك من يقول إن مواقف سعيد عقل كانت ردّة فعل على «أفعال» الفلسطينيّين في سنوات الحرب، كأن «الجبهة اللبنانيّة» لم تكن تمعن قتلاً وذبحاً وتهجيراً في لبنانيّين ينتمون إلى طوائف «أدنى»).
يقول أبو أرز عن علاقة سعيد عقل بميليشياه عام 1975 ما يلي: «إن الشاعر سعيد عقل هو الرئيس الروحي والفكري» وأن إيديولوجيّة حرّاس الأرز «هي نفسها إيديولوجية سعيد عقل، وهو المُرشد الروحي لنا». (من حديث لـ«الدستور»، مدرج في كتاب «وثيقة حرب لبنان»، الجزء الأوّل، ص. 495). أما عقل فيعترف أن «أفكار الحركة ومبادءها موجودة في ما كتبته منذ أربعين سنة» (ص. 494)، أي قبل اندلاع الحرب (ولقد وصف طريد العدالة، أبو أرز، سعيد عقل، في نعيه قبل أيّام له بـ«المعلّم والصديق والأخ والرفيق والأب الروحي لمسيرتنا النضالية وعرّابها وواضع أسس عقيدتها»). وينسى البعض ان سعيد عقل أعلن ترشيحه لرئاسة الجمهوريّة عام 1976، ومن مقرّ «حرّاس الأرز» في الأشرفيّة. وكانت الميليشيا المذكورة أوّل من جاهر بطلب التحالف مع العدوّ الإسرائيلي في لبنان، كما أنها أعلنت في مؤتمر صحافي رسمي في عام 1976 أنها ترفع شعاراً جديداً يُضاف إلى شعارها المُبكّر: «لن يبقى فلسطيني على أرض لبنان» (وقد أطلق الحزب شعاره في 13 نيسان، 1975 – راجع هاديا لحّام بركات، «حزب حرّاس الأرز»، ص. 169)، وهو «على كل لبناني أن يقتل فلسطينيّاً» (راجع مؤتمر أبو أرز، المثبت في أنطوان خويري، «الحرب في لبنان: 1976»، الجزء الثاني، ص. 493).
وتتوضّح أفكار أبو أرز العنصريّة نحو العرب (وهي مُستقاة من أفكار سعيد عقل نفسه) في كلامه عن «عقدة الجمل» وعن تفوّق «نوعيّة» الشعب في دولة العدوّ الإسرائيلي على العرب «المُصابون بعقدة الكثرة» (أبو أرز، «فصول في الوعي القومي»، ص. 114.). هذا هو الإرث العنصري (او النسق اللبناني من النازيّة) لسعيد عقل قبل تلك المقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي. وبوحي من سعيد عقل أصدرت ميليشيا «حرّاس الأرز» في تمّوز 1976 بياناً جاء فيه «إن إسرائيل ليست عدوّة لبنان بل الصديق المشترك للبنانيّين» («حزب حرّاس الأرز»، ص. 123). ويسوق المدافعون عن عقل أنساقاً عدة من الدفاع عنه، هذه بعضها:
أولاً، «لنتمثّل بالغرب». يقول جهاد الزين في «النهار» ان عقل يستحق التكريم في رام الله (بسبب أغنية واحدة من كلماته عن فلسطين) ولأن مارتن هايدغر لم يُحاسب على إنضامه للحزب النازي. لا بل إن الزين أضاف أن الحلفاء احترموا «قيمته الفكريّة العالية» ما أتاح له الاستمرار في النشاط الثقافي والأكاديمي. لا تمكن مقارنة شاعر زحلة البارع بالفيلسوف الألماني. والزين مخطئ طبعاً في الحقائق. لقد عاش هايدغر بعد الحرب العالميّة الثانيّة منبوذاً ومحتقراً كما أن الحكومة الفرنسيّة طبّقت ما سُميّ يومها بـ«التطهير القانوني» لمحاسبة كل من تورّط أو تغاضى عن النازيّة (وتمّ التحقيق في أكثر من ربع مليون قضيّة) ونال هايدغر جراء ذلك عقاباً، وطُرد من الجامعة وفقد الكرسي الأكاديمي الذي كان يحتلّه. (علّم هيدغر في ما بعد لكن ليس بالمرتبة نفسها التي كان يحتلّها).
ثانياً، «الكل إرتكب مجازر والكل تعامل مع العدوّ». هذا طبعاً غير صحيح. ليس كل من شارك في الحرب الأهليّة اتسخ بأوحالها. لم ترتكب الأحزاب الشيوعيّة اللبنانيّة والفلسطينيّة في لبنان أية مجازر أو جرائم طائفيّة، حافظت على نظافتها. كما أن عمليّات التطهير والتهجير العرقي والطائفي لم تقم بها إلا القوّات اليمينيّة والانعزاليّة. هذا لا ينفي أن كل الأحزاب الطائفيّة (غير العلمانيّة) ارتكبت جرائم وفظاعات، لكن حجم المسؤوليّة الإجراميّة الحربيّة للميليشيات الانعزاليّة لا يماثل أية مسؤوليّة مقابِلة. ثم، لا، لم يقم كل اللبنانيّين بالتعاون أو التعامل مع العدوّ الإسرائيلي. عندما كان وليد حنبلاط يستضيف شمعون بيريز في قصره في المختارة، كان سليم الحصّ يرفض أي نوع من اللقاء مع ممثّلي العدوّ الإسرائيلي.
ثالثاً، «إيلي حبيقة». هذه وجهة نظر صحيحة. إن الذي قبل بإعادة الاعتبار إلى مجرم الحرب، إيلي حبيقة، الذي تعاون مع العدوّ في صبرا وشاتيلا وفي غيرها من المواقع، لا تجوز إلا الإدانة ضدّه والمحاكمة. وفي هذا، إن رفيق الحريري الذي تبنّاه، والنظام السوري الذي رعاه، وفريق موالاة النظام السوري في لبنان ارتكبا سابقة مشينة في إعادة الاعتبار لوكلاء العدوّ الإسرائيلي في لبنان. ولقد أخطأت «السفير» في أعادة الاعتبار إلى سعيد عقل من خلال استكتابه في الستعينيات في الجريدة، كما أن محمّد حسن الأمين أعاد الاعتبار إلى عقل عبر دعوته للمحاضرة في الضاحية الجنوبيّة بعد سنوات الحرب.
رابعاً، «الكل في لبنان عنصري»، هذا غير صحيح، طبعاً. إن الذي يقول إن الكل عنصري في لبنان يدين نفسه ويدين معارفه. لا يؤمن كل الشعب اللبناني بنظريّات سعيد عقل عن تفوّق «العنصر» اللبناني وعن دونيّة العرب.
خامساً، «زلّة لسان». هناك من يسوّغ فعلة عقل بالقول إن هناك سياقاً للحديث مع التلفزيون الإسرائيلي وأن ما قاله حدث في لحظة معيّنة. لا، كان موقف عقل منسجماً مع كل مواقفه خلال سنوات الحرب وكانت مطبوعته «لبنان» تلهج بحمد العدوّ الإسرائيلي. والشاعر مثل أي مواطن يُحاسَب، كما يُحاسِب. والشاعر أو الكاتب مسؤول أكثر من غيره عن كلامه وأقواله لأنه يزين الكلام بميزان أدقّ. وليس هناك من سياق يمكن ان يبرّر الدعوة الصريحة إلى مناصرة جيش العدوّ الإسرائيلي وحثّ اللبنانيّين على عونه وعلى إبادة الشعب الفلسطيني. لقد تطوّع عقل حينها بإلقاء خطبة في «الكنيست» لكن إذلال العدوّ في جنوب لبنان عكّر عليه أحلامه. كما أن مواقف عقل عشية الحرب الأهليّة وخلالها (كما ورد أعلاه) اتسقت مع تلك المقابلة المشينة.
سادساً، «إن عقل تراجع في ما بعد عن مواقفه». هذا غير صحيح. لم يتراجع عقل عن مواقفه ولم يصدر اعتذاراً. صحيح، أنه قال كلاماً ضد دولة العدوّ في التسعينيات، لكن موقفه كان نابعاً من موقفه العنصري ضد اليهود كيهود، وليس ضد الصهيونيّة وجرائمها ضد شعب وأرض فلسطين. والطريف ان الذين يصيحون استنكاراً ويحملون الشموع والبقدونس إذا ما تفوّه أحدهم في حزب الله بكلمة ضد اليهود، لم تزعجهم كراهية عقل لليهود كيهود (وكراهية عقل لليهود كيهود لا تعني أنه كان معادياً لدولة العدوّ، إذ ان اللورد بلفور والكثير من مسؤولي الغرب عبر العقود كانوا صهاينة وكارهين لليهود في الوقت نفسه).
سابعاً، «هناك فنانون وشعراء غنّوا ورقصوا لطغاة». وكل من رقص وأنشد لطاغية يجب ان يتحمّل مسؤولية أفعاله. ولقد أشار صبحي الحديدي في مقالته عن سعيد عقل إلى ان الجواهري نظم في مديح حافظ الأسد، وان مطربين لبنانيّين غنّوا لبشّار. لكن لماذا لم يعط ِالحديدة امثلة إلا عن النظام السوري؟ هل يعتبر ان الرقص في الجنادريّة والغناء لشيوخ النفط والغاز أقلّ ضرراً؟ لكن يجب التشديد على خصوصيّة العداء لدولة العدوّ الإسرائيلي. النظم السياسيّة والسلالات، في سوريا وفي غيرها تتغيّر، لكن العدوّ على أرض فلسطين يبقى عدوّاً بصرف النظر عن تعاقب الحكومات.
ثامناً، «إن سعيد عقل هو شاعر فحسب»، وان «ما خصّه بالسياسة». هذا يتناقض مع تاريخه ولا ننسى انه كان من مؤسّسي «جبهة الحريّة والإنسان» التي رعت الميلشيات الانعزاليّة في أولى سنوات الحرب، وهو لم يغادر قيادة «الجبهة اللبنانيّة» إلا بعد ان رفضت مقترحاته للمجاهرة بطرد الشعب الفلسطيني من كل لبنان. أي ان القوّات اللبنانيّة و«الكتائب» و«الأحرار» اعترضوا على تطرّف شاعركم الموقّر.
تاسعاً، «أنه ولو، ألم يكتب قصيدة واحدة عن فلسطين». صحيح، هو كتبها لكنها قد تكون من أسوأ قصائده وهي منبريّة خطابيّة على طريقة قصيدة الأخطل الصغير «سائل العلياء عنا والزمانا». كما ان عقل بثّ في «لبنان إن حكى» فكر الفصل العنصري القومي الخيالي بين شعب فلسطين وشعب لبنان المُتخيّل في التاريخ السحيق.
عاشراً، «رجحان العقل، أو عدمه». كتب لي صديق أحترمه: «مالك ومال سعيد عقل». لم يكن الرجل موزوناً. ألم يقل سعيد فريحة عنه: تراه عن بعيد فتظنّ انه معتوه، لكن عندما يقترب وتتحدّث إليه تتأكد. لكنني لست طبيباً، المواقف السياسيّة التي تخدم الاحتلال الإسرائيلي ليست زلات أو هفوات، وليس الضخ العنصري بريئاً.
حادي عشر، «الطائفيّة». يصرّ البعض على إقحام الموضوع الطائفي، وقال أحدهم على «الجديد» (عن نقد عقل) هذا نقد لطائفة برمّتها، هذه هي الطائفيّة عينها. لا، لا تتحمّل الطائفة المارونيّة (أو أي طائفة) وزر أفعال أفراد أو مجموعة فيها. والكاتب في «النهار»، محمد نمر (لماذا يتخصّص إعلام الطائفيّة المسيحيّة – كما إعلام الطائفيّة الإسلاميّة – بالاستعانة بأفراد من طائفة أخرى لقول ما يريدون، كما لاحظ الرفيق سماح إدريس قبل أيّام على «فايسبوك») يقول إن «تجاوزات الفلسطيني» هي سبب تأييد عقل للعدوّ، وأن «المسيحي» كان قلقاً.
ثاني عشر، «الخيانة مرّة واحدة». هناك من يسوّغ أقوال وأفعال سعيد عقل عبر القول إنه ناصر العدوّ مرّة واحدة فقط، على أساس نظريّة ان الخيانة (بالمعنى القانوني للكلمة عند وقوع الاحتلال أو في حالة الحرب، كما نحن نظريّاً ضد إسرائيلي) مُبرّرة مرّة واحدة فقط، على أن لا تتكرّر.
ثالث عشر، «الحبّ والمحبّة». من أفظع ما يُقال في تسويغ أقوال سعيد عقل، ما قاله زاهي وهبة في «الأخبار» عن أن عقل أحبّ لبنان وكفى «مهما شابَ هذا الحُبَّ من مغالاة الحبيب». ومن حبّ الأوطان ما قتل. أحبّ عقل لبنان على طريقة أنطوان لحد وبيار الجميّل وابنيْه.
رابع عشر، «كتب غزلاً جميلاً». صحيح، هو كتب غزلاً جميلاً لكن نظرته إلى المرأة كانت رجعيّة وكان يقول إن الغزل لا تستحقه إلا «الشريفات» و«النبيلات» واللواتي لم يقعن في حب أحد غير أزواجهنّ في حياتهنّ. كان يحتقر النساء اللواتي يتمتّعن بالحب والجنس خارج الزواج.
إن موضوع سعيد عقل فتح، أو يجب ان يفتح الباب على مصراعيه عن سمات ونفاق الثقافة السائدة في لبنان. لاحظ الرفيق سماح إدريس على «فايسبوك» أن الذين هاجوا وماجوا ضد فيروز (وبينهم أهل اليسار) لأنها عبّرت (بحسب ابنها) عن إعجاب بحسن نصرالله، صمتوا أو أيّدوا حق سعيد عقل بالإعجاب بقادة العدوّ الإسرائيلي وبجيشه. والمبالغة مُحبّذة في لبنان، وهم يخلطون دوماً بين الشعر الرمزي وبين الفلسفة، فيصبح عندهم سعيد عقل من «كبار الفلاسفة» بحسب وصف أنيس مسلّم في «النهار». كما ان المقيت في ثقافة ما بعد الطائف مفاهيم مضلّلة ومشوّهة للديمقراطيّة حيث تتاح للمرء مناصرة العدوّ وجيش الاحتلال من باب حريّة التعبير، مع ان الدول الغربيّة التي يتمثّلون بها تزجّ بالسجن فوراً أي مواطن يعبّر قولاً أو كتابة عن تأييد لأعداء الوطن. الذي يتبرّع بقرش لمستشفى في غزة تديره حركة «حماس» يذهب إلى السجن في أميركا (وقد حدث ذلك في أكثر من حالة).
لكن، حتى لا يُساء فهمي، أنا مع تدريس شِعرِه في كل المراحل الدراسيّة في لبنان. هذا من ضرورات التنشئة الوطنيّة. طبعاً، أتحدّث عن شعر… محمود درويش.
ملاحظة
ردّ محمّد علي مقلّد على مقالتي «كارل ماركس والدولة» قبل أيّام. أجد أن أفضل ردّ على ردّه هو أن أستشهد بما ورد في ردّه بالحرف: «البرجوازية اللبنانية التي كانت أكثر حرصاً على الوطن من قوى السلطة وقوى الثورة على حد سواء، وأنها، أي البرجوازية، وفي مقدمتها رفيق الحريري، هي التي حمت البلد من الانهيار الاقتصادي في اللحظات العصيبة… قد بدت الحريرية الظاهرة الوحيدة ما بعد الحرب الأهلية التي تملك مشروعاً لإعادة بناء الوطن». حسبي ماركس ونعم الوكيل.