غاية التناقض أن تكون سعوديا، أو كويتيا، أو مصريا، وتخشى على أبنائك الذين يدرسون، أو يعملون في الولايات المتحدة، أو أوروبا، أن يتحولوا إلى متطرفين راغبين في الالتحاق بتنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش»!
هذه المفارقة العجيبة ليست ببعيدة عن الحقيقة لمن يتتبع شأن المبتعثين في الخارج، ومن هاجر للعيش في الغرب. وقد يكون الخوف على الطالب السعودي أن يكون متطرفا في جامعة في شيكاغو، أو برمنغهام، ربما أكثر منه على الطالب في جامعة أم القرى في مكة المكرمة، أو جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، أو جامعة الأزهر الدينية في القاهرة. طبعا هذه فرضية، ولا يعني أننا أمام ظاهرة بعد، إنما يوجد قلق سياسي واجتماعي عام. وقد عكسه حديث الملحق الثقافي السعودي في الولايات المتحدة الدكتور محمد العيسى، الذي حث المبتعثين على الابتعاد عن حلقات التطرف، والجماعات المشبوهة. القلق هو على الذين ينتقلون إلى مجتمع آخر مختلف، يكون فيه الفرد مسؤولا عن نفسه وتكوينه مسؤولية كاملة، في مجتمع يمنح المرء مساحة كبيرة من الحريات، لكن في الوقت نفسه يتسلح الناس هناك، رغم الحرية والتعددية والفردية، بثقافتهم التي تقيهم من المزالق الخطرة، مثل الانخراط في جماعات العنف.
الشباب المبكر مرحلة عمر التجريب، وبناء الذات، وليس غريبا أن يسافر المبتعث إلى الولايات المتحدة بشعر طويل ويعود منها بلحية كثة، حيث يمر بتحولات فكرية، نتيجة وجوده في مناخ يختلف عن الذي تربى فيه، إلى مجتمع الحرية، والمسؤولية الفردية، والاستقلالية. ومن أهم مميزات الابتعاث أن يتعلم خارج الحاضنة المحلية، ويجرب بذاته، ويقرر وحده، ويبني شخصيته، ويتعلم الاعتماد على نفسه، ويتعايش مع الآخر. هذه كلها إيجابيات تضاف إلى أن يحصل على التعليم النوعي الذي أرسل من أجله.
الأمر يصبح مقلقا فقط عندما يعجز عن التعامل مع الجديد في حياته، ويفشل في فهم الخطر، ويعجز عن التمييز، هنا قد يقع في المحظور، مثل إدمان مخدرات، أو الالتحاق بجماعات متطرفة تؤمن بالعنف.
أما كيف يمكن حدوث هذا، فالأمر مرهون بمناخ الحريات الذي يتطلب تعاطيه زمنا طويلا من التربية، والبقاء ضمن حدود النظام المسموح. فالمجتمع السعودي في غالبه متماثل الأفكار والتقاليد، أما الغرب فهو حر، بتقاليد أقل. الأول محافظ والثاني منفتح. وهناك فارق بين المحافظ والمتطرف، حيث يخلط البعض بينهما. الجامعة الأميركية لا تدفع بطلابها للتطرف بأي شكل من الأشكال، لكنها تمنحهم حرية التفكير والتجمع والنشاط المستقل، وهذا وراء ازدهار التنظيمات المتطرفة، التي عايشناها منذ السبعينات، البعثية والقومية والإسلامية تشب وتنمو في محيط الجامعات الأميركية والأوروبية أكثر مما حدث لها في محيط الجامعات العربية. ولا يوجد خلل في أن يمارس الطالب حقوقه وميوله، إنما التحدي في قصور فهمه للثقافة الليبرالية، وبسببه تختلط المفاهيم عنده، فالحرية مثلا قد تعني له حق التحزب العدواني، دون اعتبار لمفهوم المسؤولية الفردية والتعايش الجماعي.
وهذه معضلة للمهاجرين المسلمين، أكثر منها عند المبتعثين، الذين ينشغلون في التزاماتهم التعليمية وبقاؤهم مؤقت، ينتهي بنهاية دراستهم.
وهذه القصة التي نشرت أحداثها هذا الأسبوع في الولايات المتحدة تبين إشكال الثقافتين. دارين وشفيع أبوان مسلمان أميركيان، من أصول هندية، يتم التحقيق معهما في شيكاغو. فقد نجحا في تحصين أبنائهما من الانحراف الاجتماعي، بمنع التلفزيون ومراقبة النت، لكن في صبيحة يوم استيقظا على طرق رجال الأمن الأميركي يريدون تفتيش المنزل، وذلك بعد اعتقال الأبناء الثلاثة في المطار، في طريقهم إلى تركيا، ثم للالتحاق بـ«داعش»، في الرقة، في سوريا. الأبوان مصدومان لأنهما بعد 30 عاما من هجرتهما من الهند أدركا فشلهما في فهم المخاطر المحتملة على أولادهما. كانا يظنان أن الخوف من الثقافة الغربية في نفس الحي، ليكتشفا أن الأذى من وراء البحار. اتضح أن الأبناء، الأكبر عمره 19 عاما، والفتاة 17 عاما، والأصغر 16 عاما، كانوا ضحية شخص يتسمى بأبي القعقاع، قام بتضليلهم من خلال النت، عبر هواتفهم الجوالة، في وقت كان الأب يظن أنه ذكي بمراقبته نشاط أولاده على شبكة النت على كومبيوتر المنزل. وقد أقنعهم أبو القعقاع بأنه صارت هناك دولة إسلامية، وعليهم القدوم إلى سوريا، وسمى البنت بأم البراء التي قالت إنها ستذهب ليس للقتال بل للزواج بأحد المقاتلين!
كل هذه الدراما الواقعية وقعت في إحدى ضواحي مدينة شيكاغو، وبالقرب من أنف الأب الذي ظن أن الخطر على أولاده من المواقع الإباحية والبرامج التلفزيونية! وبالتالي نحن نعتقد أن باكستان أو السعودية أخطر على الشباب في حين أن المشكلة الفكرية التي تعصف بنا كمسلمين، لا حدود لها.